واعلم أن هذا القول ضعيف ويدل عليه وجهان : الأول : أن الضمير في قوله :﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ ﴾ يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله :﴿شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُه ﴾ وأما الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق، فهو غير مناسب. والثاني : ما روى أبو سعيد الخدري : أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : إن أخي يشتكي بطنه فقال :"اسقه عسلاً" فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فلم يغن عنه شيئاً، فقال عليه الصلاة والسلام :"اذهب واسقه عسلاً" فذهب فسقاه، فكأنما نشط من عقال، فقال :"صدق الله وكذب بطن أخيك" وحملوا قوله :"صدق الله وكذب بطن أخيك" على قوله :﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ ﴾ وذلك إنما يصح لو كان هذا صفة للعسل.
فإن قال قائل : ما المراد بقوله عليه السلام :"صدق الله وكذب بطن أخيك".
قلنا : لعله عليه السلام علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك/ فلما لم يظهر نفعه في الحال مع أنه عليه السلام كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك، كان هذا جارياً مجرى الكذب، فلهذا السبب أطلق عليه هذا اللفظ.
ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ واعلم أن تقرير هذه الآية من وجوه : الأول : اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة مثل بناء البيوت المسدسة وسائر الأحوال التي ذكرناها. والثاني : اهتداؤها إلى جميع تلك الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق. والثالث : خلق الله تعالى الأجزاء النافعة في جو الهواء، ثم إلقاؤها على أطراف الأشجار والأوراق، ثم إلهام النحل إلى جمعها بعد تفريقها وكل ذلك أمور عجيبة دالة على أن إله العالم بنى ترتيبه على رعاية الحكمة والمصلحة، والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣٩
٢٤٢
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : لما ذكر تعالى بعض عجائب أحوال الحيوانات، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس، فمنها ما هو مذكور في هذه الآية وهو إشارة إلى مراتب عمر الإنسان، والعقلاء ضبطوها في أربع مراتب : أولها : سن النشو والنماء. وثانيهما : سن الوقوف وهو سن الشباب. وثالثها : سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة. ورابعها : سن الانحطاط الكبير وهو سن الشيخوخة. فاحتج تعالى بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض، على أن ذلك الناقل هو الله تعالى والأطباء الطبائعيون قالوا : المقتضي لهذا الانتقال هو طبيعة الإنسان، وأنا أحكي كلامهم على الوجه الملخص وأبين ضعفه وفساده، وحينئذ يبقى أن ذلك الناقل هو الله سبحانه، وعند ذلك يصح بالدليل العقلي ما ذكر الله تعالى في هذه الآية. قال الطبائعيون : إن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث، والمني والدم جوهران حاران رطبان، والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قللت رطوبته وأفادته نوع يبس، وهذا مشاهد معلوم، قالوا : فلا يزال ما في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما فيه من الرطوبة حتى تتصلب الأعضاء ويظهر فيه الانعقاد، ويحدث العظم والغضروف والعصب والوتر والرباط وسائر الأعضاء فإذا تم تكون البدن وكمل فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم الأم ومع ذلك فالرطوبات زائدة، والدليل عليه أنك ترى أعضاء الطفل بعد انفصاله من الأم لينة لطيفة وعظامه لينة قريبة الطبع من الغضاريف، ثم إن ما في البدن من الحرارة يعمل في تلك الرطوبات ويقللها، قالوا : ويحصل للبدن ثلاثة أحوال.
الحالة الأولى : أن تكون رطوبة البدن زائدة على حرارته، وحينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء، وذلك هو سن النشو والنماء ونهايته إلى ثلاثين سنة أو خمس وثلاثين سنة.
الحالة الثانية : أن تصير رطوبات البدن أقل ما كانت فتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية إلا أنها لا تكون زائدة على هذا القدر، وهذا هو سن الوقوف وسن الشباب وغايته خمس سنين، وعند تمامه يتم الأربعون.
والحالة الثالثة : أن تقل الرطوبات وتصير بحيث لا تكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية، وعند ذلك يظهر النقصان، ثم هذا النقصان قد يكون خفياً وهو سن الكهولة وتمامه إلى ستين سنة وقد يكون ظاهراً وهو سن الشيخوخة وتمامه إلى مائة وعشرين سنة فهذا هو الذي حصله الأطباء في هذا الباب، وعندي أن هذا التعليل ضعيف ويدل على ضعفه وجوه :
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٤٢


الصفحة التالية
Icon