إذا عرفت هذا فقد صح بالدليل العقلي صدق قوله :﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ﴾ لأنه ثبت أن خالق أبدان الناس وسائر الحيوانات ليس هو الطبائع بل هو الله سبحانه وتعالى، وقوله :﴿ثُمَّ يَتَوَفَّـاكُمْ ﴾ قد بينا أن السبب الذي ذكروه في صيرورة الموت فاسد باطل، وأنه يلزم عليه القول بالدور، ولما بطل ذلك ثبت أن الحياة والموت إنما حصلا بتخليق الله، وبتقديره، وقوله :﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى ا أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ قد بينا بالدليل أن الطبائع لا يجوز أن تكون علة لانتقال الإنسان من الكمال إلى النقصان ومن القوة إلى الضعف فلزم القطع بأن انتقال الإنسان من الشباب إلى الشيخوخة، ومن الصحة إلى الهرم، ومن العقل الكامل إلى أن صار حرفاً غافلاً ليس بمقتضى الطبيعة بل بفعل الفاعل المختار، وإذا ثبت ما ذكرنا ظهر أن الذي دل عليه لفظ القرآن قد ثبت صحته بقاطع القرآن.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ وهذا كالأصل الذي عليه تفريع كل ما ذكرناه، وذلك لأن الطبيعة جاهلة لا تميز بين وقت المصلحة ووقت المفسدة، فهذه الإنفعالات في هذا الإنسان لا يمكن إسنادها إليها. أما إله العالم ومدبره وخالقه، فهو الكامل في العلم، الكامل في القدرة، فلأجل كمال علمه يعلم مقادير المصالح والمفاسد، ولأجل كمال قدرته يقدر على تحصيل المصالح ودفع المفاسد، فلا جرم أمكن إسناد تخليق الحيوانات إلى إله العالم، فلا يمكن إسناده إلى الطبائع والله أعلم.
المسألة الثانية : في تفسير ألفاظ الآية قال المفسرون : والله خلقكم ولم تكونوا شيئاً ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، وهو أردؤه وأضعفه. يقال : رذل الشيء يرذل رذالة وأرذلة غيره، ومنه قوله :﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ﴾ (الشعراء : ١١١) وقوله :﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى ا أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ هل يتناول المسلم أو هو مختص بالكافر ؟
فيه قولان :
القول الأول : أنه يتناوله، قيل : إنه العمر الطويل، وعلى هذا الوجه نقل عن علي عليه السلام أنه قال : أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وقال قتادة : تسعون سنة. وقال السدي : إنه الخرف. والقول الأول أولى ؛ لأن الخرف معناه زوال العقل، فقوله :﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى ا أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنا بَعْدِ عِلْمٍ شَيْـاًا ﴾ يدل على أنه تعالى إنما رده إلى أرذل العمر لأجل أن يزيل عقله، فلو كان المراد من أرذل العمر هو زوال العقل لصار الشيء عين الغاية المطلوبة منه وأنه باطل.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٤٢
والقول الثاني : أن هذا ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب طول العمر إلا كرامة على الله تعالى ولا يجوز أن يقال في حقه إنه يرد إلى أرذل العمر، والدليل عليه قوله تعالى :﴿ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ (التبين : ٥، ٦) فبين تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردوا إلى أسفل سافلين. وقال عكرمة : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ ﴾ قال ابن عباس : يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه قدير على ما يريد.
المسألة الثالثة : هذه الآية كما تدل على وجود إله العالم الفاعل المختار، فهي أيضاً تدل على صحة البعث والقيامة، وذلك لأن الإنسان كان عدماً محضاً فأوجده الله ثم أعدمه مرة ثانية، فدل عهذا على أنه لما كان معدوماً في المرة الأولى، وكان عوده إلى العدم في المرة الثانية جائزاً، فكذلك لما/ صار موجوداً، ثم عدم وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرة الثانية جائزاً، وأيضاً كان ميتاً حين كان نطفة ثم صار حياً ثم مات فلما كان الموت الأول جائزاً كان عود الموت جائزاً/ فكذلك لما كانت الحياة الأولى جائزة، وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرة الثانية، وأيضاً الإنسان في أول طفوليته جاهل لا يعرف شيئاً، ثم صار عالماً عاقلاً فاهماً، فلما بلغ أرذل العمر عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولية، وهو عدم العقل والفهم، فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر، فكذلك العقل الذي حصل، ثم زال وجب أن يكون جائز العود في المرة الثانية، وإذا ثبتت هذه الجملة ثبت أن الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده وعود حياته وعود عقله مرة أخرى ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنشر حق والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٤٢
٢٤٤


الصفحة التالية
Icon