والوجه الثاني : في الجواب قال المبرد : إن ذكر أحد الضدين تنبيه على الآخر، قلت ثبت في العلوم العقلية أن العلم بأحد الضدين يستلزم العلم بالضد الآخر، فإن الإنسان متى خطر بباله الحر خطر بباله أيضاً البرد، وكذا القول في النور والظلمة والسواد والبياض، فلما كان الشعور بأحدهما مستتبعاً للشعور بالآخر، كان ذكر أحدها مغنياً عن ذكر الآخر.
والوجه الثالث : قال الزجاج : ما وقى من الحر وقى من البرد، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر.
فإن قيل : هذا بالضد أولى، لأن دفع الحر يكفي فيه السرابيل التي هي القمص من دون تكلف زيادة، وأما البرد فإنه لا يندفع إلا بتكليف زائد.
قلنا : القميص الواحد لما كان دافعاً للحر كان الاستكثار من القميص دافعاً للبرد فصح ما ذكرناه، وقوله :﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ يعني دروع الحديد، ومعنى البأس الشدة ويريد ههنا شدة الطعن والضرب والرمي.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٥٧
واعلم أنه تعالى لما عدد أقسام نعمة الدنيا قال :﴿كَذَالِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ﴾ أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعمة الدنيا والدين عليكم :﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ قال ابن عباس : لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية، وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات أحد سواه، ونقل عن ابن عباس أنه قرأ :﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ بفتح التاء، والمعنى : أنا أعطيناكم هذه السرابيلات لتسلموا عن بأس الحرب، وقيل أعطيتكم هذه النعم لتتفكروا فيها فتؤمنوا فتسلموا من عذاب الله.
ثم قال تعالى :﴿فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ﴾ أي فإن تولوا يا محمد وأعرضوا وآثروا لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر فعلى أنفسهم جنوا ذلك، وليس عليك إلا ما فعلت من التبليغ التام، ثم إنه تعالى ذمهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وذلك نهاية في كفران النعمة.
فإن قيل : ما عنى ثم ؟
قلنا : الدلالة على أن إنكارهم أمر يستبعد بعد حصول المعرفة، لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر. وفي المراد بهذه النعمة وجوه : الأول : قال القاضي : المراد بها جميع ما ذكره الله تعالى في الآيات المتقدمة من جميع أنواع النعم ؛ ومعنى أنهم أنكروه هو أنهم ما أفردوه تعالى بالشكر والعبادة، بل شكروا على تلك النعم غير الله تعالى ولأنهم قالوا : إنما حصلت هذه النعم بشفاعة / هذه الأصنام. والثاني : أن المراد أنهم عرفوا أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم حق ثم ينكرونها، ونبوته نعمة عظيمة كما قال تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ﴾. الثالث : يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، أي لا يستعملونها في طلب رضوان الله تعالى.
ثم قال تعالى :﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَـافِرُونَ﴾.
فإن قيل : ما معنى قوله ؛ ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَـافِرُونَ﴾ مع أنه كان كلهم كافرين.
قلنا : الجواب من وجوه : الأول : إنما قال :﴿وَأَكْثَرُهُمُ﴾ لأن كان فيهم من لم تقم عليه الحجة ممن لم يبلغ حد التكليف أو كان ناقص العقل معتوهاً، فأردا بالأكثر البالغين والأصحاء. الثاني : أن يكون المراد بالكافر الجاحد المعاند، وحينئذ نقول إنما قال :﴿وَأَكْثَرُهُمُ﴾ لأنه كان فهيم من لم يكن معانداً بل كان جاهلاً بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام وما ظهر له كونه نبياً من عند الله. الثالث : أنه ذكر الأكثر والمراد الجميع، لأن أكثر الشيء يقوم مقام الكل، فذكر الأكثر كذكر الجميع، وهذا كقوله :﴿الْحَمْدُ لِلَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (لقمان : ٢٥) والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٥٧


الصفحة التالية
Icon