واعلم أن في المأمورات كثرة وفي المنهيات أيضاً كثرة، وإنما حسن تفسير لفظ معين لشيء معين إذا حصل بين ذلك اللفظ وبين ذلك المعنى مناسبة. أما إذا لم تحصل هذه الحالة كان ذلك التفسير فاسداً، فإذا فسرنا العدل بشيء والإحسان بشيء آخر وجب أن نبين أن لفظ العدل يناسب ذلك المعنى، ولفظ الإحسان يناسب هذا المعنى، فلما لم نبين هذا المعنى كان ذلك مجرد التحكم، ولم يكن جعل بعض تلك المعنى تفسيراً لبعض تلك الألفاظ أولى من العكس، فثبت أن هذه الوجود التي ذكرناها ليست قوية في تفسير هذه الآية، وأقول ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى أمر بثلاثة أشياء، وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن ثلاثة أشياء هي : الفحشاء، والمنكر، والبغي فوجب أن يكون العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ثلاثة أشياء متغايرة ووجب أن تكون الفحشاء والمنكر والبغي ثلاثة أشياء متغايرة، لأن العطف يوجب المغايرة فنقول :/ أما العدل فهو عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وذلك أمر واجب الرعاية في جميع الأشياء، ولا بد من تفصيل القول فيه فنقول : الأحوال التي وقع التكليف بها إما الاعتقادات وإما أعمال الجوارح. أما الاعتقادات : فالعدل في كلها واجب الرعاية فأحدها : قال ابن عباس : إن المراد بالعدل هو قول لا إله إلا الله، وتحقيق القول فيه أن نفي الإله تعطيل محض وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتشبيه وهما مذمومان، والعدل هو إثبات الإله الواحد وهو قول لا إله إلا الله. وثانيها : أن القول بأن الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محض، والقول بأنه جسم وجوهر مركب من الأعضاء، ومختص بالمكان تشبيه محض، والعدل إثبات إله موجود متحقق بشرط أن يكون منزهاً عن الجسمية والجوهرية والأعضاء والأجزاء والمكان، وثالثها : أن القول بأن الإله غير موصوف بالصفات من العلم والقدرة تعطيل محض، والقول بأن صفاته حادثة متغيرة تشبيه محض. والعدل هو إثبات أن الإله عالم قادر حي مع الإعتراف بأن صفاته ليست حادثة ولا متغيرة. ورابعها : أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محض، والقول بأن العبد مستقل بأفعاله قدر محض وهما مذمومان، والعدل أن يقال : إن العبد يفعل الفعل لكن بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله تعالى فيه، وخامسها : القول أن الله تعالى لا يؤاخذ عبده على شيء من الذنوب مساهلة عظيمة، والقول بأنه تعالى يخلد في النار عبده العارف بالمعصية الواحدة تشديد عظيم، والعدل أنه يخرج من النار كل من قال واعتقد أنه لا إله إلا الله، فهذه أمثلة ذكرناها في رعاية معنى العدل في الاعتقادات، وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح، فنذكر ستة أمثلة منها : أحدها : أن قوماً من نفاة التكاليف يقولون : لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي، وليس لله عليه تكليف أصلاً وقال قوم من الهند ؛ ومن المانوية إنه يجب على الإنسان أن يجتنب عن كل الطيبات وأن يبالغ في تعذيب نفسه وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى أن المانوية يخصون أنفسهم ويحترزون عن التزوج ويحترزون عن أكل الطعام الطيب والهند يحرقون أنفسهم ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل، فهذان الطريقان مذمومان، والوسط المعتدل هو هذا الشرع الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلّم. وثانيها : أن التشديد في دين موسى عليه السلام غالب جداً، والتساهل في دين عيسى عليه السلام غالب جداً والوسط العدل شريعة محمد صلى الله عليه وسلّم. قيل : كان شرع موسى عليه السلام في القتل العمد استيفاء القصاص لا محالة، وفي شرع عيسى عليه السلام العفو. أما في شرعنا فإن شاء استوفى القصاص على سبيل المماثلة، وإن شاء استوفى الدية وإن شاء عفا، وأيضاً شرع موسى يقتضي/ الاحتراز العظيم عن المرأة حال حيضها وشرع عيسى يقتضي حل وطء الحائض، والعدل ما حكم به شرعنا وهو أنه محرم وطؤها احترازاً عن التلطخ بتلك الدماء الخبيثة أما لا يجب إخراجها عن الدار. وثالثها : أنه تعالى قال :
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٦٣


الصفحة التالية
Icon