البحث الثاني : أن قوله :﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ يدل على أن نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع. وقال جهم بن صفوان : إنه منقطع والآية حجة عليه.
واعلم أن المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان، وحينئذ يجب عليه أمران : أحدهما : أن يصبر على ذلك الإلتزام وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته. والثاني : أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه.
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه، فقال :﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ أي على ما الزموه من شرائع الإسلام ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي يجزيهم على أحسن أعمالهم، وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحثات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب لا على فعل المباحثات، فلهذا قال :﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الثاني وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام فقال :﴿مَنْ عَمِلَ صَـالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : لفظة "من" في قوله :﴿مَنْ عَمِلَ صَـالِحًا﴾ تفيد العموم فما الفائدة في ذكر الذكر والأنثى ؟
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٦٨
والجواب : أن هذه الآية للوعد بالخيرات والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتاً للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص.
السؤال الثاني : هل تدل هذه الآية على أن الأيمان مغاير للعمل الصالح ؟
والجواب : نعم لأنه تعالى جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح موجباً للثواب. وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء.
السؤال الثالث : ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان، فظاهر قوله :﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ﴾ يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو كان مع عدمه.
والجواب : أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان، أما إفادته لأثر غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان.
السؤال الرابع : هذه الحياة الطيبة تحصل في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة.
والجواب فيه ثلاثة أقوال :
القول الأول : قال القاضي : الأقرب أنها تحصل في الدنيا بدليل أنه تعالى أعقبه بقوله :﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ولا شبهة في أن المراد منه ما يكون في الآخرة.
ولقائل أن يقول : لا يبعد أن يكون المراد من الحياة الطيبة ما يحصل في الآخرة، ثم إنه مع ذلك وعدهم الله على أنه إنما يجزيهم على ما هو أحسن أعمالهم فهذا لا امتناع فيه.
فإن قيل : بتقدير أن تكون هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في الدنيا فما هي ؟
والجواب : ذكروا فيه وجوهاً قيل : هو الرزق الحلال الطيب. وقيل : عبادة الله مع أكل الحلال، وقيل : القناعة، وقيل : رزق يوم بيوم كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقول في دعائه :"قنعني بما رزقني" وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يدعو :"أللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً" قال الواحدي وقول من يقول : إن القناعة حسن مختار لأنه لا يطيب عيش أحد في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه يكون أبداً في الكد والعناء.
واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه : الأول : أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى، وعرف أنه تعالى محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضياً/ بكل ما قضاه وقدره، وعلم أن مصلحته في ذلك، أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبداً في الحزن والشقاء. وثانيها : أن المؤمن أبداً يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها وعلى تقدير وقوعها يرضى بها، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، فعند وقوعها لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلاً عن تلك المعارف، فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه. وثالثها : أن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى، والقلب إذا كان مملوءاً من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا، أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فلا جرم يصير مملوءاً من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا. ورابعها : أن المؤمن عارف بأن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها، أما الجاهل فإنه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فلا جرم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها. وخامسها : أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة التقلب فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٦٨