اعلم أن المراد من هذه الآية حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وذلك لأنهم كانوا يقولون إن محمداً إنما يذكر هذه القصص وهذه الكلمات لأنه يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمها منه. واختلفوا في هذا البشر الذي نسب المشركون النبي صلى الله عليه وسلّم إلى التعلم منه قيل : هو عبد لبني عامر بن لؤي يقال له يعيش، وكان يقرأ الكتب، وقيل : عداس غلام عتبة بن ربيعة، وقيل : عبد لبني الحضرمي صاحب كتب، وكان اسمه جبرا، وكانت قريش تقول : عبد بني الحضرمي يعلم خديجة وخديجة تعلم محمداً، وقيل : كان بمكة نصراني أعجمي اللسان اسمه بلعام ويقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية وقيل : سلمان الفارسي، وبالجملة فلا فائدة في العديد هذه الأسماء والحاصل أن القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٧٣
ثم إنه تعالى أجاب عنه بأن قال :﴿لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ﴾ ومعنى الإلحاد في اللغة الميل يقال : لحد وألحد إذا مال عن القصد، ومنه يقال للعادل عن الحق ملحد. وقرأ حمزة والكسائي :﴿يُلْحِدُونَ﴾ بفتح الياء والحاء، والباقون بضم الياء وكسر الحاء قال الواحدي : والأولى ضم الياء لأنه لغة القرآن، والدليل عليه قوله :﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادا بِظُلْمٍ﴾ (الحج : ٢٥) والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة، ومنه يقال : ألحدت له لحداً إذا حفرته في جانب القبر مائلاً عن الاستواء وقبر ملحد وملحود، ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها لم يمله عن دين إلى دين آخر وفسر الإلحاد/ في هذه الآية بالقولين : قال الفراء : يميلون من الميل، وقال الزجاج : يميلون من الإمالة، أي لسان الذين يميلون القول إليه أعجمي، وأما قوله :﴿أَعْجَمِىٌّ﴾ فقال أبو الفتح الموصلي : تركيب ع ج م وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء، وضد الباين والإيضاح، ومنه قولهم : رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان، وعجم الذنب سمي بذلك لاستتاره واختفائه، والعجماء البهيمة لأنها لا توضح ما في نفسها، وسموا صلاتي الظهر والعصر عجماوين، لأن القراءة حاصلة فيهما بالسر لا بالجهر، فأما قولهم : أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته، وأفعلت قد يأتي والمراد منه السلب كقولهم : أشكيت فلاناً إذا أزلت ما يشكوه، فهذا هو الأصل في هذه الكلمة، ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بلسانهم أعجم وأعجمياً. قال الفراء وأحمد بن يحيى : الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والأعجمي والعجمي الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي : الأعجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم، ألا ترى أنهم قالوا : زيادة الأعجم لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنه كان عربياً، وأما معنى العربي واشتقاقه فقد ذكرناه عند قوله :﴿الاعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا﴾ (التوبة : ٩٧) وقال الفراء والزجاج : في هذه الآية يقال عرب لسانه عرباة وعروبة هذا تفسير ألفاظ الآية :
وأما تقرير ووجه الجواب فاعلم أنه إنما يظهر إذا قلنا : القرآن إنما كان معجزاً لما فيه من الفصاحة العائدة إلى اللفظ وكأنه قيل : هب أنه يتعلم المعاني من ذلك الأعجمي إلا أن القرآن إنما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمداً صلى الله عليه وسلّم يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح ذلك في المقصود إذ القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته وما ذكرتموه لا يقدح في ذلك المقصود، ولما ذكر الله تعالى هذا الجواب أردفه بالتهديد والوعيد، فقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ أما تفسير أصحابنا لهذه الآية فظاهر، وقال القاضي : أقوى ما قيل في ذلك إنه لا يهديهم إلى طريق الجنة، ولذلك قال بعده :﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار، ثم إنه تعالى بين كونهم كذابين في ذلك القول فقال :﴿إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّه وَ أولئك هُمُ الْكَـاذِبُونَ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٧٣