واعلم أنه يجوز وصف القرية بالأمن، وإن كان ذلك لأهلها لأجل أنها مكان الأمن وظرف / له، والظروف من الأزمنة والأمكنة توصف بما حلها، كما يقال : طيب وحار وبارد.
والصفة الثانية : قوله :﴿مُّطْمَـاـاِنَّةً﴾ قال الواحدي : معناه أنها قارة ساكنة فأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق. أقول : إن كان المراد من كونها مطمئنة أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف، فهذا هو معنى كونها آمنة، وإن كان المراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الضيق، فهذا هو معنى قوله :﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ﴾ وعلى كلا التقديرين فإنه يلزم التكرار.
والجواب : أن العقلاء قالوا :
ثلاثة ليس لها نهاية
الأمن والصحة والكفاية قوله :﴿ءَامِنَةً﴾ إشارة إلى الأمن، وقوله :﴿مُّطْمَـاـاِنَّةً﴾ إشارة إلى الصحة، لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائماً لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه، وقوله :﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ﴾ إشارة إلى الكفاية. قال المفسرون وقوله :﴿مِّن كُلِّ مَكَانٍ﴾ السبب فيه إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام وهو قوله :﴿فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾ (إبراهيم : ٣٧) ثم إنه تعالى لما وصف القرية بهذه الصفات الثلاثة قال :﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ الأنعم جمع نعمة مثل أشد وشدة أقول ههنا سؤال : وهو أن الأنعم جمع قلة، فكان المعنى : أن أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من النعم فعذبها الله، وكان اللائق أن يقال : إنهم كفروا بنعم عظيمة لله فاستوجبوا العذاب، فما السبب في ذكر جمع القلة ؟
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٠
والجواب : المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى يعني أن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب، وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم فكفروا به وبالغوا في إيذائه فلا جرم سلط الله عليهم البلاد. قال المفسرون : عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والقد/ أما الخوف فهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم. ونقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللباس ؟
قال ابن الأعرابي : لا باس ولا لباس يا أيها النسناس، هب أنك تشك أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً وكان مقصود ابن الراوندي الطعن في هذه الآية، وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس فكان الواجب أن يقال : فكساهم الله لباس الجوع، أو يقال : فأذاقهم الله طعم الجوع. وأقول جوابه من وجوه :
الوجه الأول : أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان. أحدهما : أن المذوق هو / الطعم فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع. والثاني : أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات، فأشبه اللباس. فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر الله تعالى كلا الاعتبارين، فقال :﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾.
والوجه الثاني : أن التقدير أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة وأصل الذوق بالفم، ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف وهو الاختبار، تقول : ناظر فلاناً وذق ما عنده. قال الشاعر :
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها
وسيق إلينا عذبها وعذابها ولباس الجوع والخوف هو ما ظهر عليهم من الضمور وشحوب اللون ونهكة البدن وتغير الحال وكسوف البال فكما تقول : تعرفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان، كذلك يجوز أن تقول : ذقت لباس الجوع والخوف على فلان.
والوجه الثالث : أن يحمل لفظ اللبس على المماسة، فصار التقدير : فأذاقها الله مساس الجوع والخوف.
ثم قال تعالى :﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ قال ابن عباس : يريد بفعلهم بالنبي صلى الله عليه وسلّم حين كذبوه وأخرجوه من مكة وهموا بقتله. قال الفراء : ولم يقل بما صنعت، ومثله في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى :﴿فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَـاتًا أَوْ هُمْ قَآاـاِلُونَ﴾ (الأعراف : ٤) ولم يقل قائلة، وتحقيق الكلام أنه تعالى وصف القرية بأنها مطمئنة يأتيها رزقها رغداً فكفرت بأنعم الله، فكل هذه الصفات، وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية، إلا أن المراد في الحقيقة أهلها، فلا جرم قال في آخر الآية :﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٠
٢٨١


الصفحة التالية
Icon