البحث الأول : قال قوم : إن النبي صلى الله عليه وسلّم كان على شريعة إبراهيم عليه السلام، وليس له شرع هو به منفرد، بل المقصود من بعثته عليه السلام إحياء شرع إبراهيم عليه السلام وعول في إثبات مذهبه على هذه الآية وهذا القول ضعيف، لأنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال :﴿اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ كان المراد ذلك.
فإن قيل : النبي صلى الله عليه وسلّم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية وإذا كان كذلك لم يكن متابعاً له فيمتنع حمل قوله :﴿أَنِ اتَّبِعْ﴾ على هذا المعنى فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.
قلنا : يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.
البحث الثاني : قال صاحب "الكشاف" : لفظة "ثم" في قوله :﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ تدل على تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ملته من قبل، إن هذه اللفظة دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة عن سائر المدائح التي مدحه الله بها.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٥
٢٨٦
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بمتابعة إبراهيم عليه السلام، وكان محمد عليه السلام اختار يوم الجمعة، فهذه المتابعة إنما تحصل إذا قلنا إن إبراهيم عليه السلام كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة، وعند هذا لسائل أن يقول : فلم اختار اليهود يوم السبت ؟
فأجاب الله تعالى عنه بقوله :﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيه ﴾ وفي الآية قولان :
القول الأول : روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أمرهم موسى بالجمعة وقال : تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك، وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق وهو يوم السبت، فجعل الله تعالى السبت لهم وشدد عليهم فيه، ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضاً بالجمعة، فقالت النصارى : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا واتخذوا الأحد. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد".
إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى :﴿عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيه ﴾ أي على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فاختلافهم في السبت كان اختلافهم على نبيهم في ذلك اليوم أي لأجله، وليس معنى قوله :﴿اخْتَلَفُوا فِيه ﴾ أن اليهود اختلفوا فيه فمنهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به، لأن اليهود اتفقوا على ذلك فلا يمكن تفسير قوله :﴿اخْتَلَفُوا فِيه ﴾ بهذا، بل الصحيح ما قدمناه.
فإن قال قائل : هل في العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من يوم السبت ؟
وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام، وبدأ تعالى بالخلق والتكوين من يوم الأحد وتم في يوم الجمعة، فكان يوم السبت يوم الفراغ، فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال، فعينوا السبت لهذا المعنى، وقالت النصارى : مبدأ الخلق والتكوين هو يوم الأحد، فنجعل هذا اليوم عيداً لنا، فهذان الوجهان معقولان، فما الوجه في جعل يوم الجمعة عيداً لنا ؟
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٦
قلنا : يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام وحصول التمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه، والله أعلم.
والقول الثاني : في اختلافهم في السبت، أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة.
ثم قال تعالى :﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ والمعنى : أنه تعالى سيحكم يوم القيامة للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٦
٢٨٨
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بإتباع إبراهيم عليه السلام، بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه، فقال :﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾.


الصفحة التالية
Icon