المرتبة الثالثة : وهو ورود الأمر بالجزم بالترك وهو قوله :﴿وَاصْبِرْ﴾ لأنه في المرتبة الثانية ذكر أن الترك خير وأولى، وفي هذه المرتبة الثالثة صرح بالأمر بالصبر، ولما كان الصبر في هذا المقام شاقاً شديداً ذكر بعده ما يفيد سهولته فقال :﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّه ﴾ أي بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي المفيد في حصول الصبر وفي حصلو جميع أنواع الطاعات. ولما ذكر هذا السبب الكلي الأصلي ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب فقال :﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ وذلك لأن إقدام الإنسان على الانتقام، وعلى إنزال الضرر بالغير لا يكون إلا عند هيجان الغضب، وشدة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين : أحدهما : فوات نفع كان حاصلاً في الماضي وإليه الإشارة بقوله :﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ قيل معناه : ولا تحزن على قتلى أحد، ومعناه لا تحزن بسبب فوت أولئك الأصدقاء. ويرجع حاصله إلى فوت النفع. والسبب الثاني : لشدة الغضب توقع ضرر في المستقبل، وإليه الإشارة بقوله :﴿وَلا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ ومن وقف على هذه اللطائف عرف أنه لا يمكن كلام أدخل في حسن والضبط من هذا الكلام بقي في لفظ الآية مباحث :
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٩١
البحث الأول : قرأ ابن كثير :﴿وَلا تَكُ فِى ضَيْقٍ﴾ بكسر الضاد، وفي النمل مثله، والباقون : بفتح الضاد في الحرفين. أما الوجه في القراءة المشهورة فأمور : قال أبو عبيدة : الضيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن، وما كان في القلب فإنه الضيق. وقال أبو عمرو : الضيق بالكسر الشدة والضيق بفتح الضاد الغم. وقال القتيبي : ضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين. وبهذا الطريق قلنا : إنه تصح قراءة ابن كثير.
البحث الثاني : قرىء ﴿وَلا تَكُن فِى ضَيْقٍ﴾.
البحث الثالث : هذا من كلام المقلوب، لأن الضيق صفة، والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون المصوف حاصلاً في الصفة، فكان المعنى فلا يكون الضيق فيك، إلا أن الفائدة في قوله :﴿وَلا تَكُ فِى ضَيْقٍ﴾ هو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإسنان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به، فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى والله أعلم.
المرتبة الرابعة : قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ وهذا يجري مجرى التهديد لأن في المرتبة الأولى رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز، وفي المرتبة الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله :﴿وَلَا ِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾ وفي المرتبة الثالثة أمرنا بالصبر على سبيل الجزم، وفي هذه المرتبة الرابعة كأنه ذكر الوعيد في فعل الانتقام فقال :﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا ﴾ عن استيفاء الزيادة :﴿وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ في ترك أصل الانتقام، فإن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين. ومن وقف على هذا التريب عرف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون على سبيل الرفق واللطف مرتبة فمرتبة، ولما قال الله لرسوله :﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ ذكر هذه المراتب الأربعة، تنبيهاً على أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يجب أن تكون واقعة على هذا الوجه، وعند الوقوف على هذه اللطائف يعلم العاقل أن هذا الكتاب الكريم بحر لا ساحل له.
المسألة الثالثة : قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا ﴾ معيته بالرحمة والفضل والرتبة، وقوله :﴿الَّذِينَ اتَّقَوا ﴾ إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى، وقوله :﴿وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ إشارة إلى الشفقة على خلق الله، وذلك يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين أعني التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله، وعبر عنه بعض المشايخ فقال : كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق، وقال الحكماء : كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وعن هرم بن حيان أنه قيل له عند القرب من الوفاة أوص، فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي، ولكني أوصيكم بخواتيم سورة النحل.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٩١
المسألة الرابعة : قال بعهضم : إن قوله تعالى :﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه ا وَلَا ِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾ منسوخ بآية السيف، وهذا في غاية البعد، لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى، وترك التعدي وطلب الزيادة، ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف، وأكثر المفسرين مشغوفون بتكثير القول بالنسخ، ولا أرى فيه فائدة والله أعلم بالصواب.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٩١
٢٩١


الصفحة التالية
Icon