المسألة الثالثة : قال النحويون : إنما قال :﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ للتقابل والمعنى : فإليها أو فعليها مع أن حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض، كقوله تعالى :﴿يَوْمَـاـاِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ (الزلزلة : ٤، ٥) أي إليها.
المسألة الرابعة ؛ قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال :﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُمْ ﴾ ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال :﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك.
ثم قال تعالى :﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاخِرَةِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال المفسرون : معناه وعد المرة الأخيرة، وهذه المرة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام. قال الواحدي : فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وقتل وخرب بيت المقدس أقول : التواريخ تشهد بأن بختنصر كان قبل وقت عيسى عليه الصلاة والسلام ويحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام بسنين متطاولة، ومعلوم أن الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له :/ قسطنطين الملك، والله أعلم بأحوالهم، ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٠٣
المسألة الثانية : جواب قوله :﴿فَإِذَا جَآءَ﴾ محذوف تقديره : فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوؤا وجوهكم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ما تقدم عليه من قوله :﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ﴾ (الإسراء : ٥) ثم قال :﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : ساءه يسوءه أي أحزنه، وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه، لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والإسفار في الوجه. وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه، فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن.
المسألة الثانية : قرأ العامة : ليسوؤا على صيغة المغايبة، قال الواحدي : وهي موافقة للمعنى وللفظ. أما المعنى فهو أن المبعوثين هم الذين يسوؤنهم في الحقيقة، لأنهم هم الذين يقتلون ويأسرون وأما اللفظ فلأنه يوافق قوله :﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ﴾ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة : على إسناد الفعل إلى الواحد، وذلك الواحد يحتمل أن يكون أحد أشياء ثلاثة : إما اسم الله سبحانه لأن الذي تقدم هو قوله : ثم ردنا وأمددنا، وكل ذلك ضمير عائد إلى الله تعالى، وإما أن يكون ذلك الواحد هو البعث ودل عليه قوله :﴿أُولَـاهُمَا بَعَثْنَا﴾ والفعل المتقدم يدل على المصدر كقوله تعالى :﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ ﴾ (آل عمران : ١٨) وقال الزجاج : ليسوء الوعد وجوهكم، وقرأ الكسائي بالنون وهذا على إسناد الفعل إلى الله تعالى كقوله : بعثنا عليكم وأمددنا.
ثم قال تعالى :﴿وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ يقال : تبر الشيء تبراً إذا هلك وتبره أهلكه. قال الزجاج : كل شيء جعلته مكسراً ومفتتاً فقد تبرته، ومنه قيل : تبر الزجاج وتبر الذهب لمكسره، ومنه قوله تعالى :﴿إِنَّ هَـا ؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَـاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف : ١٣٩) وقوله :﴿وَلا تَزِدِ الظَّـالِمِينَ﴾ (نوح : ٢٨) وقوله :﴿وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا ﴾ يحتمل ما غلبوا عليه وظفروا به، ويحتمل ويتبروا ما داموا غالبين، أي ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل، وقوله :﴿تَتْبِيرًا﴾ ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر وإزالة الشك في صدقه كقوله :﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ (النساء : ١٦٤) أي حقاً، والمعنى : وليدمروا ويخربوا ما غلبوا عليه.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٠٣
ثم قال تعالى :﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ والمعنى : لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل.


الصفحة التالية
Icon