فإن قيل : هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة، فكيف يليق بهذا الموضع قوله :﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
قلنا عنه جوابان : أحدهما : أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين، والثاني : أن بعضهم قال :﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ﴾ (آل عمران : ٢٤) فهم في هذا القول صاروا كالمنكرين للآخرة، والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٠٤
٣٠٥
وفي الآية مباحث :
البحث الأول : اعلم أن وجه النظم هو أن الإنسان بعد أن أنزل الله عليه القرآن وخصه بهذه النعمة العظيمة والكرامة الكاملة، قد يعدل عن التمسك بشرائعه والرجوع إلى بياناته، ويقدم على ما لا فائدة فيه فقال :﴿وَيَدْعُ الانسَـانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَه بِالْخَيْرِ ﴾.
البحث الثاني : اختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشر على أقوال :
القول الأول : المراد منه : النضر بن الحرث حيث قال :﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ﴾ (الأنفال : ٣٢) فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته، فكان بعضهم يقول : ائتنا بعذاب الله. وآخرون يقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. وإنما فعلوا ذلك للجهل واعتقاد أن محمداً كاذب فيما يقول.
والقول الثاني : المراد أنه في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً فأقبل يئن بالليل فقالت له : ما لك تئن ؟
فشكى ألم القيد فأرخت له من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي عليه الصلاة والسلام دعا به فأعلم بشأنه، فقال عليه الصلاة والسلام :"اللهم اقطع يدها" فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله يدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم :"إني سألت الله أن يجعل دعائي على من لا يستحق عذاباً من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما تغضبون، فلترد سودة يدها".
والقول الثالث : أقول : يحتمل أن يكون المراد : أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أن خيره فيه، مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولاً مغتراً بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها.
البحث الرابع : القياس : إثبات الواو في قوله :﴿وَيَدْعُ﴾ إلا أنه حذف في المصحف من الكتابة، لأنه لا يظهر في اللفظ، أما لم تحذف في المعنى لأنها في موضع الرفع، ونظيره :﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ (العلق : ١٨) ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (المؤمنين : ١٤٦) ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ (ق : ٤١) ﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ (القمر : ٥) ولو كان بالواو والياء لكان صواباً هذا كلام الفراء. وأقول : إن هذا يدل على أنه سبحانه قد عصم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإن إثبات الياء والواو في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتهما في هذه المواضع المعدودة يدل على أن هذا القرآن نقل كما سمع، وأن أحداً لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوة عقله.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٠٥
ثم قال تعالى :﴿وَكَانَ الانسَـانُ عَجُولا﴾ وفي هذا الإنسان قولان :
القول الأول : آدم عليه السلام، وذلك لأنه لما انتهت الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قوله :﴿وَكَانَ الانسَـانُ عَجُولا﴾.
والقول الثاني : أنه محمول على الجنس، لأن أحداً من الناس لا يعرى عن عجلة، ولو تركها لكان تركها أصلح له في الدين والدنيا، وأقول : بتقدير أن يكون المراد هو القول الأول، كان المقصود عائداً إلى القول الثاني، لأنا إذا حملنا الإنسان على آدم عليه الصلاة والسلام كان المعنى أن آدم الذي كان أصل البشر لما كان موصوفاً بهذه العجلة وجب أن تكون هذه صفة لازمة للكل، فكان المقصود عائداً إلى القول الثاني، والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٠٥
٣٠٨
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير النظم وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال :﴿وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ ﴾ وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه، فكذلك الدهر مركب من النهار والليل. فالمحكم كالنهار، والمتشابه كالليل، وكما / أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه، فكذلك الوقت والزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل.
والوجه الثاني : في تقرير النظم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وذلك الأقوم ليس إلا ذكر الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة، لا جرم أردفه بذكر دلائل التوحيد، وهو عجائب العالم العلوي والسفلي.


الصفحة التالية
Icon