القول الثاني : قال أبو عبيدة : الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر، والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم، والعمر والرزق، والسعادة والشقاوة. والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه، بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية، فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه، فبهذا المعنى لا يبعد / أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر، فقوله :﴿وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـا اـاِرَه فِى عُنُقِه ﴾ كناية عن أن كل ما قدره الله تعالى ومضى في علمه حصوله، فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه.
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على أن كل ما قدره الله تعالى للإنسان وحكم عليه به في سابق علمه فهو واجب الوقوع ممتنع العدم/ وتقريره من وجهين :
الوجه الأول : أن تقدير الآية : وكل إنسان ألزمناه عمله في عنقه، فبين تعالى أن ذلك العمل لازم له، وما كان لازماً للشيء كان ممتنع الزوال عنه واجب الحصول له وهو المقصود.
والوجه الثاني : أنه تعالى أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه، لأن قوله :﴿أَلْزَمْنَـاهُ﴾ تصريح بأن ذلك الإلزام إنما صدر منه، ونظيره قوله تعالى :﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ (الفتح : ٢٦) وهذه الآية دالة على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام :"جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" والله أعلم.
المسألة الثالثة : قوله :﴿فِى عُنُقِه ﴾ كناية عن اللزوم كما يقال : جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به، ويقال : قلدتك كذا وطوقتك كذا، أي صرفته إليك وألزمته إياك، ومنه قلده السلطان كذا. أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق، ومنه يقال : فلان يقلد فلاناً أي جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه. قال أهل المعاني : وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء بهذا المعنى لأن الذي يكون عليه إما أن يكون خيراً يزينه أو شراً يشينه، وما يزين يكون كالطوق والحلي، والذي يشين فهو كالغل، فههنا عمله إن كان من الخيرات كان زينة له، وإن كان من المعاصي كان كالغل على رقبته.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣١١
ثم قال تعالى :﴿وَنُخْرِجُ لَه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ كِتَـابًا يَلْقَـاـاهُ مَنشُورًا﴾ قال الحسن : يا ابن آدم بسطنا لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وشمالك. فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، حتى اذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة. قوله :﴿وَنُخْرِجُ لَه ﴾ أي من قبره يجوز أن يكون معناه : نخرج له ذلك لأنه لم ير كتابه في الدنيا فإذا بعث أظهر له ذلك وأخرج من الستر، وقرأ يعقوب :(ويخرج له يوم القيامة كتاباً) أي يخرج له الطائر أي عمله كتاباً منشوراً، كقوله تعالى :﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ (التكوير : ١٠) وقرأ ابن عمر :(يلقاه) من قولهم : لقيت فلاناً الشيء أي استقبلته به. قال تعالى :﴿وَلَقَّـاـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ (الإنسان : ١١) وهو منقول بالتشديد من لقيت الشيء ولقانيه زيد.
ثم قال تعالى :﴿اقْرَأْ كِتَـابَكَ﴾ والتقدير يقال له : وهذا القائل هو الله تعالى على ألسنة الملائكة / ﴿اقْرَأْ كِتَـابَكَ﴾ قال الحسن : يقرؤه أمياً كان أو غير أمي، وقال بكر بن عبد الله : يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها، وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها، حتى إذا ظن أنها أوبقته قال الله تعالى :"اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك" فيعظم سروره، ويصير من الذين قال في حقهم :﴿وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ (عبس : ٣٨، ٣٩) ثم يقول :﴿هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ﴾ (الحاقة : ١٩).
وأما قوله :﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ أي محاسباً. قال الحسن : عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك. قال السدي : يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد، فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له :﴿اقْرَأْ كِتَـابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ والله أعلم.
المسألة الرابعة : قال حكماء الإسلام : هذه الآية في غاية الشرف، وفيها أسرار عجيبة في أبحاث :


الصفحة التالية
Icon