المسألة الأولى : أنه تعالى لما قال في الآية الأولى :﴿وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـا اـاِرَه فِى عُنُقِه ﴾ (الإسراء : ١٣) ومعناه : أن كل أحد مختص بعمل نفسه، عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى أقرب إلى الأفهام وأبعد عن الغلط فقال :﴿مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِه ا وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، ولا يتعدى منه إلى غيره، ويتأكد هذا بقوله :﴿وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَه سَوْفَ يُرَى ﴾ (النجم : ٣٩، ٤٠) قال الكعبي : الآية دالة على أن العبد متمكن من الخير والشر، وأنه غير مجبور على عمل بعينه أصلاً لأن قوله :﴿مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِه ا وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد، أما المجبور على أحد الطرفين، الممنوع من الطرف الثاني فهذا لا يليق به.
المسألة الثانية : أنه تعالى أعاد تقرير أن كل أحد مختص بأثر عل نفسه بقوله :﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ قال الزجاج : يقال وزر يزر فهو وازر ووزر وزرا وزرة، ومعناه : أثم يأثم إثماً قال : وفي تأويل الآية وجهان : الأول : أن المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره، وأيضاً غيره لا يؤاخذ بذنبه بل كل أحد مختص بذنب نفسه. والثاني : أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم، لأن غيره عمله كما قال الكفار :﴿وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ﴾ (الزخرف : ٣٢).
واعلم أن الناس تمسكوا بهذه الآية في إثبات أحكام كثيرة.
الحكم الأول :
قال الجبائي في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم، وإلا لكان الطفل مؤاخذاً بذنب أبيه، وذلك على خلاف ظاهر هذه الآية.
الحكم الثاني :
روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"إن الميت ليعذب ببكاء أهله" فعائشة طعنت في صحة هذا الخبر، واحتجت على صحة ذلك الطعن بقوله تعالى :﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ فإن تعذيب الميت بسبب بكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره، وذلك خلاف هذه الآية.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣١٣
الحكم الثالث :
قال القاضي : دلت هذه الآية على أن الوزر والإثم ليس من فعل الله تعالى. وبيانه من وجوه : أحدها : أنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره. وثانيها : أنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلاً، لأن الوازر إنما يصح أن يوصف بذلك إذا كان مختاراً يمكنه التحرز، ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بهذا.
الحكم الرابع :
أن جماعة من قدماء الفقهاء امتنعوا من ضرب الدية على العاقلة، وقالوا : لأن ذلك يقتضي مؤاخذة الإنسان بسبب فعل الغير، وذلك على مضادة هذه الآية.
وأجيب عنه بأن المخطىء ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل، فكيف يصير غيره مؤاخذاً بسبب ذلك الفعل، بل ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء من الله تعالى.
المسألة الثالثة : قال أصحابنا وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ وجه الاستدلال أن الوجوب لا تتقرر ماهيته إلا بترتيب العقاب على الترك، ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية، فوجب أن لا يتحقق الوجوب قبل الشرع. ثم أكدوا هذه الآية بقوله تعالى :﴿رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ (النساء : ١٦٥) وبقوله :﴿وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ﴾ (طه : ١٣٤).


الصفحة التالية
Icon