المسألة الثالثة : المشهور عند القراء السبعة :﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ بالتخفيف غير ممدودة الألف، وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس :﴿أَمْرُنَآ﴾ بالمد، وعن أبي عمرو ﴿أَمْرُنَآ﴾ بالتشديد فالمد على الكثير يقال : أمر القوم بكسر الميم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد، أي كثرهم الله. والتشديد على التسليط، أي سلطنا مترفيها، ومعناه التخلية وزوال المنع بالقهر والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣١٦
أما قوله تعالى :﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنا بَعْدِ نُوحٍ ﴾ فاعلم أن المراد أن الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ويتمردون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح. وهم عاد وثمود وغيرهم، ثم إنه تعالى خاطب رسوله بما يكون خطاباً لغيره وردعاً وزجراً للكل فقال :﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا﴾ وفيه بحثان :
البحث الأول : أنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق، وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادراً على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه. وأيضاً أنه منزه عن العبث والظلم. ومجموع هذه الصفات الثلاث أعني العلم التام، والقدرة الكاملة، والبراءة عن الظلم بشارة عظيمة لأهل الطاعة. وخوف عظيم لأهل الكفر والمعصية.
البحث الثاني : قال الفراء : لو ألغيت الباء من قولك بربك جاز، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم. كقولك : كفاك به. وأكرم به رجلاً. وطاب بطعامك طعاماً. وجاد بثوبك ثوباً، أما إذا لم يكن مدحاً أو ذماً لم يجز دخولها، فلا يجوز أن يقال : قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣١٦
٣١٩
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال القفال رحمه الله : هذه الآية داخلة في معنى قوله :﴿وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـا اـاِرَه فِى عُنُقِه ﴾ (الإسراء : ١٣) ومعناه : أن الكمال في الدنيا قسمان، فمنهم من يريد بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم، اشفاقاً من زوال الرياسة عنه، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً لأنه في قبضة الله تعالى فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان، بل كما يشاء الله إلا أن عاقبته جهنم يدخلها فيصلاها بحرها مذموماً ملوماً مدحوراً منفياً مطروداً من رحمة الله تعالى. وفي لفظ هذه الآية فوائد.
الفائدة الأولى : أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة، فقوله :﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَه جَهَنَّمَ يَصْلَـاـاهَا﴾ إشارة إلى المضرة العظيمة، وقوله :﴿مَذْمُومًا﴾ إشارة إلى الإهانة والذم، وقوله :﴿مَّدْحُورًا﴾ إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله، وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص.
الفائدة الثانية : أن من الجهال من إذا ساعدته الدنيا اغتر بها وظن أن ذلك لأجل كرامته على الله تعالى، وأنه تعالى بين أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى، لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها هي المصير إلى عذاب الله وإهانته، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السوء في لزومها له وكونها سائقة له إلى أشد العذاب.
الفائدة الثالثة : قوله تعالى :﴿لِمَن نُّرِيدُ﴾ يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد، بل كثير من الكفار والضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا وعن الدين، وهذا أيضاً فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضلال الذين يتركون الدين لطلب الدنيا، فإنه ربما فاتتهم الدنيا فهم الأخسرون أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣١٩
وأما القسم الثاني : وهو قوله تعالى :﴿وَمَنْ أَرَادَ الاخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ فشرط تعالى فيه شروطاً ثلاثة :
الشرط الأول : أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة، فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة، وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى :﴿وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى ﴾ (النجم : ٣٩) ولقوله عليه الصلاة والسلام :"إنما الأعمال بالنيات" ولأن المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته، وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته.


الصفحة التالية
Icon