المسألة الثانية : قرأ الأكثرون :﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاهُمَا﴾ وعلى هذا التقدير فقوله :﴿يَبْلُغَنَّ﴾ فعل وفاعله هو قوله :﴿أَحَدُهُمَآ﴾ وقوله :﴿أَوْ كِلاهُمَا﴾ عطف عليه كقولك : ضرب زيد أو عمرو : ولو أسند قوله :﴿يَبْلُغَنَّ﴾ إلى قوله :﴿كِلاهُمَا﴾ جاز لتقدم الفعل، تقول قال رجل، وقال رجلان، وقالت الرجال، وقرأ حمزة والكسائي : وعلى هذه القراءة فقوله :﴿رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ﴾ بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين وكلاهما عطف على أحدهما فاعلاً أو بدلاً.
فإن قيل : لو قيل إما يبلغان كلاهما كان كلاهما توكيداً لا بدلاً، فلم زعمتم أنه بدل ؟
قلنا : لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين فانتظم في حكمه، فوجب أن يكون مثله في كونه بدلاً.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال قوله :﴿أَحَدُهُمَآ﴾ بدل، وقوله :﴿أَوْ كِلاهُمَا﴾ توكيد، ويكون ذلك عطفاً للتوكيد على البدل.
قلنا : العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلاً والآخر توكيداً خلاف الأصل والله أعلم.
المسألة الثالثة : قال أبو الهيثم الرازي، وأبو الفتح الموصلي، وأبو علي الجرجاني : إن كلاً اسم مفرد يفيد معنى التثنية ووزنه فعل ولامه معتل بمنزلة لام حجي ورضي وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة ولا تكون إلا مضافة. والدليل عليه أنها لو كانت تثنية لوجب أن يقال في النصب والخفض مررت بكلى الرجلين بكسر الياء كما تقول : بين يدي الرجل ومن ثلثي الليل. ويا صاحبي السجن. وطرفي النهار ولما لم يكن الأمر كذلك، علمنا أنها ليست تثنية بل هي لفظة مفردة وضعت للدلالة على التثنية كما أن لفظة كل اسم واحد موضوع للجماعة، فاذن أخبرت عن لفظة كما تخبر عن الواحد كقوله تعالى :﴿وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فَرْدًا﴾ (مريم : ٩٥) وكذلك إذا أخبرت عن كلا أخبرت عن واحد فقلت كلا إخوتك كان قائماً قال الله تعالى :﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا﴾ (الكهف : ٣٣) ولم يقل آتتا والله أعلم.
المسألة الرابعة : قوله :﴿يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاهُمَا﴾ معناه : أنهما يبلغان إلى حالة الضعف والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٢٨
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الجملة فعند هذا الذكر كلف الإنسان في حق الوالدين بخمسة أشياء :
النوع الأول : قوله تعالى :﴿فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج : فيه سبع لغات : كسر الفاء وضمها وفتحها، وكل هذه الثلاثة بتنوين وبغير تنوين فهذه ستة واللغة السابعة أفي بالياء قال الأخفش : كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه فقال قولي هذا وذكر ابن الأنباري : من لغات هذه اللفظة ثلاثة زائدة على ما ذكره الزجاج :﴿أُفٍّ﴾ بكسر الألف وفتح الفاء وافه بضم الألف وادخال الهاء و﴿أُفٍّ﴾ بضم الألف وتسكين الفاء.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وابن عامر : بفتح الفاء من غير تنوين، ونافع وحفص : بكسر الفاء والتنوين، والباقون : بكسر الفاء من غير تنوين وكلها لغات، وعلى هذا الخلاف في سورة الأنبياء ﴿أُفٍّ لَّكُمْ﴾ (الأنبياء : ٦٧) وفي الأحقاف :﴿أُفٍّ لَّكُمَآ﴾ (الأحقاف : ١٧) وأقول : البحث المشكل ههنا أنا لما نقلنا عشرة أنواع من اللغات في هذه اللفظة/ فما السبب في أنهم تركوا أكثر تلك اللغات في قراءة هذه اللفظة، واقتصروا على وجوه قليلة منها ؟
المسألة الثالثة : ذكروا في تفسير هذه اللفظة وجوهاً : الأول : قال الفراء : تقول العرب جعل فلان يتأفف من ريح وجدها، معناه يقول : أف أف. الثاني : قال الأصمعي : الأف وسخ الأذن. والتف وسخ الظفر. يقال ذلك عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوا عند كل ما يتأذون به. / الثالث : قال بعضهم أف معناه قلة، وهو مأخوذ من الأفيف وهو الشيء القليل وتف أتباع له، كقولهم : شيطان ليطان خبيث نبيث. الرابع : روى ثعلب عن ابن الأعرابي : الأف الضجر. الخامس : قال القتبي : أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد نفخت فيه لتزيله والصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قولك أف، ثم إنهم توسعوا فذكروا هذه اللفظة عند كل مكروه يصل إليهم. السادس : قال الزجاج : أف معناه النتن وهذا قول مجاهد، لأنه قال معنى قوله :﴿فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك كنت تخر أو تبول، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف.


الصفحة التالية
Icon