ثم قال تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ والمقصود أنه عرف رسوله صلى الله عليه وسلّم كونه رباً. والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض. والقدر في اللغة التضييق، ومنه قوله تعالى :﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه ﴾ (الطلاق : ٧) وقوله تعالى :﴿وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه ﴾ (الفجر : ١٦) أي ضيق وإنما وسع على البعض لأن ذلك هو الصلاح لهم قال تعالى :﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ ﴾ (الشورى : ٢٧).
ثم قال تعالى :﴿إِنَّه كَانَ بِعِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا﴾ يعنى أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل، بل لأجل رعاية المصالح.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٠
٣٣١
هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير النظم وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ (الإسراء : ٣٠) أتبعه بقوله :﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـاقٍا نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾.
الوجه الثاني : أنه تعالى لما علم كيفية البر بالوالدين في الآية المتقدمة علم في هذه الآية كيفية البر بالأولاد، ولهذا قال بعضهم : إن الذين يسمون بالأبرار إنما سموا بذلك لأنهم بروا الآباء والأبناء وإنما وجب بر الآباء مكافأة على ما صدر منهما من أنواع البر بالأولاد. وإنما وجب البر بالأولاد لأنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين.
الوجه الثالث : أن امتناع الأولاد من البر بالآباء يوجب خراب العالم، لأن الآباء إذا علموا ذلك قلت رغبتهم في تربية الأولاد، فيلزم خراب العالم من الوجه الذي قررناه، فثبت أن عمارة العالم إنما تحصل إذا حصلت المبرة بين الآباء والأولاد من الجانبين.
الوجه الرابع : أن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم، فالأول ضد التعظيم لأمر الله تعالى، والثاني : ضد الشفقة على خلق الله تعالى وكلاهما مذموم. والله أعلم.
الوجه الخامس : أن قرابة الأولاد قرابة الجزئية والبعضية، وهي من أعظم الموجبات للمحبة. فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح، وقسوة في القلب، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة، فرغب الله في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة.
المسألة الثانية : العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب، وقدرة البنين عليه / بسبب إقدامهم على النهب والغارة، وأيضاً كانوا يخافون أن فقرها ينفر كفأها عن الرغبة فيها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء، وفي ذلك عار شديد فقال تعالى :﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ﴾ وهذا لفظ عام للذكور والإناث، والمعنى : أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولداً، وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور وبين الإناث. وأما ما يخاف من الفقر من البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر، وقد يخاف أيضاً في العاجزين من البنين.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣١
ثم قال تعالى :﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾ يعني الأرزاق بيد الله تعالى فكما أنه تعالى فتح أبواب الرزق على الرجال، فكذلك يفتح أبواب الرزق على النساء.
المسألة الثالثة : الجمهور قرؤا إن قتلهم كان خطأ كبيراً، أي إثماً كبيراً يقال خطىء يخطأ خطأ مثل أثم يأثم إثماً. قال تعالى :﴿إِنَّا كُنَّا خَـاطِاِينَ﴾ (يوسف : ٩٧) أي آثمين، وقرأ ابن عامر خطأ بالفتح يقال : أخطأ يخطىء إخطاء وخطأ إذا أتى بما لا ينبغي من غير قصد، ويكون الخطأ اسماً للمصدر، والمعنى : على هذه القراءة أن قتلهم ليس بصواب. قال القفال رحمه الله، وقرأ ابن كثير : بكسر الخاء ممدودة ولعلهما لغتان مثل دفع ودفاع ولبس ولباس.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣١
٣٣٣
اعلم أنه تعالى لما أمر بالأشياء الخمسة التي تقدم ذكرها، وحاصلها يرجع إلى شيئين : التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، أتبعها بذكر النهي عن أشياء. أولها : أنه تعالى نهى عن الزنا فقال :﴿وَلا تَقْرَبُوا ﴾ قال القفال : إذا قيل للإنسان لا تقربوا هذا فهذا آكد من أن يقول له لا تفعله ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه :﴿كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلا﴾.


الصفحة التالية
Icon