المسألة الثانية : اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، والحل إنما يثبت بسبب عارضي، فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى الله عن القتل مطلقاً بناء على حكم الأصل، ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال :﴿إِلا بِالْحَقِّ ﴾ / فنفتقر ههنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم، والذي يدل عليه وجوه : الأول : أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله :﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ (الحج : ٧٨) ولا يريد بكم العسر. ولا ضرر ولا ضرار. الثاني : قوله عليه السلام :"الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب". الثالث : أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات : ٥٦) ولقوله عليه السلام :"حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل. الرابع : أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى :﴿وَلا تُفْسِدُوا ﴾ (الأعراف : ٨٥). الخامس : أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح، ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجح وهو محال. السادس : أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنساناً عاقلاً حكمنا فيه بتحريم قتله، وما لم نعرف شيئاً زائداً على كونه إنساناً لم نحكم فيه بحل دمه، ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل، وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم. وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٦
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال :﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ﴾ فقوله :﴿وَلا تَقْتُلُوا ﴾ نهي وتحريم، وقوله :﴿حَرَّمَ اللَّهُ﴾ إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد، ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال :﴿إِلا بِالْحَقِّ ﴾ ثم ههنا طريقان :
الطريق الأول : أن مجرد قوله :﴿إِلا بِالْحَقِّ ﴾ مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو ؟
ثم إنه تعالى قال :﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا﴾ أي في استيفاء القصاص من القاتل، وهذا الكلام يصلح جعله بياناً لذلك المجمل، وتقريره كأنه تعالى قال :﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ﴾ وذلك الحق هو أن من قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً في استيفاء القصاص. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط، فصار تقدير الآية : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا عند القصاص، وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصاً صريحاً في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد/ فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة.
والطريق الثاني : أن نقول : دلت السنة على أن ذلك الحق هو أحد أمور ثلاثة : وهو قوله عليه السلام :"لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق".
واعلم أن هذا الخبر من باب الآحاد. فإن قلنا : إن قوله :﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا﴾ تفسير لقوله :﴿إِلا بِالْحَقِّ ﴾ كانت الآية صريحة في أنه لا يحل القتل إلا بهذا السبب الواحد، / فحينئذ يصير هذا الخبر مخصصاً لهذه الآية ويصير ذلك فرعاً لقولنا : إنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وأما إن قلنا : إن قوله :﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا﴾ ليس تفسيراً لقوله :﴿إِلا بِالْحَقِّ ﴾ فحينئذ يصير هذا الخبر مفسراً للحق المذكور في الآية، وعلى هذا التقدير لا يصير هذا فرعاً على مسألة جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. فلتكن هذه الدقيقة معلومة والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٦


الصفحة التالية
Icon