أجاب نفاة القياس عن السؤال الأول فقالوا : قوله تعالى :﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ ﴾ عام دخله التخصيص في الصور العشرة المذكورة، فيبقى هذا العموم فيما وراء هذه الصور حجة، ثم نقول : الفرق بين هذه الصور العشر وبين محل النزاع أن هذه الصور العشر مشتركة في أن تلك الأحكام أحكام مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة، فإن الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعين إلى المعنى المعين واقعة متعلقة بذلك الشخص المعين، وكذلك القول في الشهادة وفي طلب القبلة وفي سائر الصور. والتنصيص على وقائع الأشخاص المعينين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له، وذلك متعذر، فلهذه الضرورة اكتفينا بالظن. أما الأحكام المثبتة بالأقيسة فهي أحكام كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة قليلة، والتنصيص عليها ممكن ولذلك فإن الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها وذكروها في كتبهم.
إذا عرفت هذا فنقول : التنصيص على الأحكام في الصور العشر التي ذكرتموها غير ممكن فلا جرم اكتفى الشارع فيها بالظن، أما المسائل المثبتة بالطرق القياسية التنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن فظهر الفرق.
وأما الجواب الثاني : وهو قولهم الظن قد يسمى علماً فنقول : هذا باطل فإنه يصح أن يقال هذا مظنون وغير معلوم، وهذا معلوم وغير مظنون، وذلك يدل على حصول المغايرة، ثم الذي يدل عليه قوله تعالى :﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآا إِن تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ﴾ (الأنعام : ١٤٨) نفي العلم، واثبات للظن، وذلك يدل على حصول المغايرة، وأما قوله تعالى :﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـاتٍ﴾ (الممتحنة : ١٠) فالمؤمن هو المقر، وذلك الإقرار هو العلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٤١
وأما الجواب الثالث : فهو أيضاً ضعيف، لأن ذلك الكلام إنما يتم لو ثبت أن القياس حجة بدليل قاطع وذلك باطل لأن تلك الحجة إما أن تكون عقلية أو نقلية/ والأول باطل لأن القياس الذي يفيد الظن لا يجب عقلاً أن يكون حجة، والدليل عليه أنه لا نزاع أن يصح من الشرع أن يقول : نهيتكم عن الرجوع إلى القياس ولو كان كونه حجة أمراً عقلياً محضاً لامتنع ذلك. والثاني : أيضاً باطل، لأن الدليل النقلي في كون القياس حجة إنما يكون قطعياً لو كان منقولاً نقلاً متواتراً وكانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعية غير محتملة النقيض ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولعرفه الكل ولارتفع الخلاف، وحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يحصل في هذه / المسألة دليل سمعي قاطع، فثبت أنه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطع ألبتة، فبطل قولكم كون الحكم المثبت بالقياس حجة معلوم لا مظنون، فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل. وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب عنه إن التمسك بهذه الآية التي عولتم عليها تمسك بعام مخصوص، والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن، فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بهذه الآية غير جائز، فالقول بكون هذه الآية حجة يفضي ثبوته إلى نفيه فكان تناقضاً فسقط الاستدلال به والله أعلم. وللمجيب أن يجيب فيقول : نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلّم أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر والله أعلم.
المسألة الثالثة : قوله :﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ﴾ فيه بحثان :
البحث الأول : أن العلوم إما مستفادة من الحواس، أو من العقول. أما القسم الأول : فإليه الإشارة بذكر السمع والبصر، فإن الإنسان إذا سمع شيئاً ورآه فإنه يرويه ويخبر عنه، وأما القسم الثاني : فهو العلوم المستفادة من العقل وهي قسمان : البديهية والكسبية، وإلى العلوم العقلية الإشارة بذكر الفؤاد.
البحث الثاني : ظاهر الآية يدل على أن هذه الجوارح مسؤولة وفيه وجوه :
الوجه الأول : أن المراد أن صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأن السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلاً، وهذه الجوارح ليست كذلك، بل العاقل الفاهم هو الإنسان، فهو كقوله تعالى :﴿وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ﴾ (يوسف : ٨٢) والمراد أهلها يقال له لم سمعت ما لايحل لك سماعه، ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لا يحل لك العزم عليه.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٤١
والوجه الثاني : أن تقرير الآية أن أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عن السمع والبصر والفؤاد فيقال لهم استعملتم السمع فيماذا أفي الطاعة أو في المعصية ؟
وكذلك القول في بقية الأعضاء، وذلك لأن هذه الحواس آلات النفس، والنفس كالأمير لها والمستعمل لها في مصالحها فإن استعملتها النفس في الخيرات استوجبت الثواب، وإن استعملتها في المعاصي استحقت العقاب.


الصفحة التالية
Icon