اعلم أن التصريف في اللغة عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة، نحو تصريف الرياح وتصريف الأمور هذا هو الأصل في اللغة، ثم جعل لفظ التصريف كناية عن التبيين، لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ومن مثال إلى مثال آخر ليكمل الإيضاح ويقوي البيان فقوله :﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾ أي بينا ومفعول التصريف محذوف وفيه وجوه : أحدها : ولقد صرفنا في هذا القرآن ضروباً من كل مثل. وثانيها : أن تكون لفظة "في" زائدة كقوله :﴿وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى ﴾ (الأحقاف : ١٥) أي أصلح لي ذريتي. أما قوله :﴿لِّيَذْكُرُوا ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ الجمهور ﴿لِّيَذْكُرُوا ﴾ بفتح الذال والكاف وتشديدهما، والمعنى : ليتذكروا فأدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما، وقرأ حمزة والكسائي ليذكروا ساكنة الذال مضمومة الكاف، وفي سورة الفرقان مثله من الذكر قال الواحدي : والتذكر ههنا أشبه من الذكر، لأن المراد منه التدبر والتفكر، وليس المراد منه الذكر الذي يحصل بعد النسيان. ثم قال : وأما قراءة حمزة والكسائي ففيها وجهان : الأول : أن الذكر قد جاء بمعنى التأمل والتدبر كقوله تعالى :﴿خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَـاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ (البقرة : ٦٣) والمعنى : وافهموا ما فيه. والثاني : أن يكون المعنى صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه.
المسألة الثانية : قال الجبائي : قوله :﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُوا ﴾ يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن، وإنما أكثر فيه من ذكر الدلائل لأنه تعالى أراد منهم فهمها والإيمان بها، وهذا يدل على أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية، ويدل على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل سواء آمنوا أو كفروا والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٤٨
ثم قال تعالى :﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الأصم : شبههم بالدواب النافرة، أي ما ازدادوا من الحق إلا بعداً وهو كقوله :﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا﴾ (التوبة : ١٢٥).
المسألة الثانية ؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكفار، وقالوا : إنه تعالى عالم بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً، فلو أراد الإيمان منهم لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة ونبوة عنه، لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سبباً لمزيد النفرة والنبوة عنه، فإنه عندما يحاول تحصيل ذلك المقصود يحترز عما يوجب مزيد النفرة والنبوة. فلما أخبر تعالى أن هذا التصريف يزيدهم نفوراً، علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم. والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿قُل لَّوْ كَانَ مَعَه ا ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في تفسيره وجهان :
الوجه الأول : أن المراد من قوله :﴿إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا﴾ هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى لغلب بعضهم بعضاً/ وحاصله يرجع إلى دليل التمانع وقد شرحناه في سورة الأنبياء في تفسير قوله :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ (الأنبياء : ٢٢) فلا فائدة في الإعادة.
الوجه الثاني : أن الكفار كانوا يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقال الله لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها أيضاً قربة إلى الله تعالى وسبيلاً إليه ولطلبت لأنفسها المراتب العالية، والدرجات الشريفة من الأحوال الرفيعة، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلاً إلى الله فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير كما يقولون وعما يقولون ويسبح بالياء في هذه الثلاثة، والمعنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه فهو مثل قوله :﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾ (آل عمران : ١٢) وقرأ حمزة والكسائي كلها بالتاء، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في الأول بالتاء على الخطاب، وفي الثاني والثالث بالياء على الحكاية، وقرأ حفص عن عاصم الأولين بالياء، والأخير بالتاء، وقرأ أبو عمرو الأول والأخير بالتاء والأوسط بالياء.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٤٨
ثم قال تعالى :﴿سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ وفيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon