ثم قال تعالى :﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ وهذه الآية مذكورة بعينها في سورة الأنعام وذكرنا استدلال أصحابنا بها وذكرنا سؤالات المعتزلة ولا بأس بإعادة بعضها قال الأصحاب : دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل قلوبهم في الأكنة. والأكنة جمع كنان وهو ما ستر الشيء مثل كنان النبل وقوله :﴿أَن يَفْقَهُوهُ﴾ أي لئلا يفقهوه. وجعل في آذانهم وقراً. ومعلوم أنهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين، فعلمنا أن المراد منعهم عن الإيمان ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره ولا يفهمون دقائقه وحقائقه. قالت المعتزلة : ليس المراد من الآية ما ذكرتم بل المراد منه وجوه أخرى. الأول : قال الجبائي : كانوا يطلبون موضعه في الليالي لينتهوا إليه ويؤذونه، ويستدلون على مبيته باستماع قراءته فأمنه الله تعالى من شرهم، وذكر له أنه جعل بينه وبينهم حجاباً لا يمكنهم الوصول إليه معه، وبين أنه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته، ويجوز أن يكون ذلك مرضاً شاغلاً يمنعهم من المصير إليه والتفرغ له، لا أنه حصل هناك كن للقلب ووقر في الأذن. الثاني : قال الكعبي : إن القوم لشدة امتناعهم عن قبول دلائل محمد صلى الله عليه وسلّم صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب مانع وساتر، وإنما نسب الله تعالى ذلك الحجاب إلى نفسه لأنه لما خلاهم مع أنفسهم، وما منعهم عن ذلك الأعراض صارت تلك التخلية كأنها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة، وهذا مثل أن السيد إذا لم يراقب أحوال عبده فإذا ساءت سيرته فالسيد يقول : أنا الذي ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك مع رأيك وما راقبت أحوالك. الثالث : قال القفال : إنه تعالى لما خذلهم بمعنى أنه لم يفعل / الألطاف الداعية لهم إلى الإيمان صح أن يقال : إنه فعل الحجاب السائر.
واعلم أن هذه الوجوه مع كلمات أخرى ذكرناها في سورة الأنعام وأجبنا عنها، فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى :﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا﴾ واعلم أن المراد أن القوم كانوا عند استماع القرآن على حالتين، لأنهم إذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين متحيرين لا يفهمون منه شيئاً، وإذا سمعوا آية فيها ذكر الله تعالى وذم الشرك بالله ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس، وذكر الزجاج في قوله :﴿وَلَّوْا عَلَى ا أَدْبَـارِهِمْ نُفُورًا﴾ وجهين : الأول : المصدر والمعنى ولوا نافرين نفورا، والثاني : أن يكون نفوراً جمع نافر مثل شهود وشاهد وركوع وراكع وسجود وساجد وقعود وقاعد.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٥١
ثم قال تعالى :﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِه إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزؤ والتكذيب. و﴿بِه ﴾ في موضع الحال، كما تقول : مستمعين بالهزؤ و﴿إِذْ يَسْتَمِعُونَ﴾ نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ﴾ أي وبما يتناجون به إذ هم ذو نجوى :﴿إِذْ يَقُولُ الظَّـالِمُونَ﴾ بدل من قوله :﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ا إِذْ يَقُولُ الظَّـالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا﴾ وفيه مباحث : الأول : قال المفسرون : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم علياً أن يتخذ طعاماً ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين، ففعل علي عليه السلام ذلك ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال : قولوا لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتدين لكم العجم فأبوا عليه ذلك، وكانوا عند استماعهم من النبي صلى الله عليه وسلّم القرآن والدعوة إلى الله تعالى يقولون : بينهم متناجين هو ساحر وهو مسحور وما أشبه ذلك من القول، فأخبر الله تعالى نبيه بأنهم يقولون :﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا﴾.
فإن قيل : إنهم لم يتبعوا رسول الله فكيف يصح أن يقولوا :﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا﴾.
قلنا : معناه أنكم إن اتبعتموه فقد اتبعتم رجلاً مسحوراً، والمسحور الذي قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء. هذا هو القول الصحيح، وقال بعضهم : المسحور هو الذي أفسد. يقال : طعام مسحور إذا أفسد عمله وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها. قال أبو عبيدة : يريد بشراً ذا سحر أي ذارئة. قال ابن قتيبة : ولا أدري ما الذي حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة، وقال مجاهد :﴿مَّسْحُورًا﴾ أي مخدوعاً لأن السحر حيلة وخديعة، وذلك لأن المشركين كانوا يقولون : إن محمداً يتعلم من بعض الناس هذه الكلمات / وأولئك الناس يخدعونه بهذه الكلمات وهذه الحكايات، فلذلك قالوا : إنه مسحور أي مخدوع، وأيضاً كانوا يقولون : إن الشيطان يتخيل له فيظن أنه ملك فقالوا : إنه مخدوع من قبل الشيطان.


الصفحة التالية
Icon