قلنا : إذا كان ما مضى أكثر مما بقي كان الباقي قريباً قليلاً، ثم قال تعالى :﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ﴾ وفيه قولان : الأول : أنه خطاب مع الكفار بدليل أن ما قبل هذه الآية كله خطاب مع الكفار، ثم نقول انتصب يوماً على البدل من قوله قريباً، والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفحة الأخيرة كما قال :﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ (ق : ٤١) يقال : إن إسرافيل ينادي أيتها الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت بقدرة الله تعالى وبإذنه وتكوينه، وقال تعالى :﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ﴾ (القمر : ٦) وقوله :﴿فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه ﴾ أي تجيبون والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي أوكد من الإجابة، وقوله :﴿بِحَمْدِه ﴾ قال سعيد بن جبير : يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون : سبحانك وبحمدك، فهو قوله :﴿فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه ﴾ وقال قتادة بمعرفته وطاعته، وتوجيه هذا القول أنهم لما أجابوا بالتسبيح والتحميد كان ذلك معرفة منهم وطاعة ولكنهم لا ينفعهم ذلك في ذلك اليوم. فلهذا قال المفسرون : حمدوا حين لا ينفعهم الحمد، وقال أهل المعاني : تستجيبون بحمده. أي تستجيبون حامدين كما يقال : جاء بغضبه أي جاء غضبان وركب الأمير بسيفه أي وسيفه معه وقال صاحب "الكشاف" : بحمده حال منهم أي حامدين، وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بعمل يشق عليه ستأتي به وأنت حامد شاكر، أي ستنتهي إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفي منك بذلك العمل وهذا يذكر في معرض التهديد.
ثم قال :﴿وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا﴾ قال ابن عباس يريد بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت، والدليل عليه قوله في سورة يس :﴿مَنا بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ﴾ (يس : ٥٢) فظنهم بأن هذا لبث قليل عائد إلى لبثهم فيما بين النفختين، وقال الحسن : معناه تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا وقيل المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة ؛ لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول في النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٥٤
القول الثاني : أن الكلام مع الكفار تم عند قوله :﴿عَسَى ا أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾ وأما قوله :﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه ﴾ فهو خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأن هذا الكلام هو اللائق بالمؤمنين لأنهم يستجيبون لله بحمده، ويحمدونه على إحسانه إليهم، والقول الأول هو المشهور، والثاني ظاهر الاحتمال.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٥٤
٣٥٦
اعلم أن قوله :﴿قُل لِّعِبَادِىَ﴾ فيه قولان :
القول الأول : أن المراد به المؤمنون، وذلك لأن لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختص بالمؤمنين قال تعالى :﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾ (الزمر : ١٧، ١٨) وقال :﴿فَادْخُلِى فِى عِبَـادِى﴾ (الفجر : ٢٩) وقال :﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ (الإنسان : ٦).
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في إبطال الشرك وهو قوله :﴿لَّوْ كَانَ مَعَه ا ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا﴾ (الإسراء : ٤٢) وذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد وهو قوله :﴿قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ (الإسراء : ٥١) قال في هذه الآية وقل يا محمد لعبادي إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا تلك الدلائل بالطريق الأحسن. وهو أن لا يكون ذكر الحجة مخلوطاً بالشتم والسب، ونظير هذه الآية قوله :﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ (النحل : ١٢٥) وقوله :﴿وَلا تُجَـادِلُوا أَهْلَ الْكِتَـابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ﴾ (العنكبوت : ٤٦) وذلك لأن ذكر الحجة لو اختلط به شيء من السب والشتم لقابلوكم بمثله كما قال :﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ (الأنعام : ١٠٨) ويزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود، أما إذا وقع الاقتصار على ذكر الحجة بالطريق الأحسن/ الخالي عن الشتم والإيذاء أثر في القلب تأثيراً شديداً فهذا هو المراد من قوله :﴿وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ﴾ ثم إنه تعالى نبه على وجه المنفعة في هذا الطريق فقال :﴿إِنَّ الشَّيْطَـانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ جامعاً للفريقين أي متى صارت الحجة مرة ممزوجة بالبذاءة صارت سبباً لثوران الفتنة.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٥٦


الصفحة التالية
Icon