البحث الأول : أنه قال في أول الآية :﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ﴾ وقال في آخرها :﴿وَفَضَّلْنَـاهُمْ﴾ / ولا بد من الفرق بين هذا التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار، والأقرب أن يقال : إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة ذلك العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل.
البحث الثاني : أنه تعالى لم يقل : وفضلناهم على الكل بل قال :﴿وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾ فهذا يدل على أنه حصل في مخلوقات الله تعالى شيء لا يكون الإنسان مفضلاً عليه، وكل من أثبت هذا القسم قال : إنه هو الملائكة. فلزم القول بأن الإنسان ليس أفضل من الملائكة بل الملك أفضل من الإنسان، وهذا القول مذهب ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط. واعلم أن هذا الكلام مشتمل على بحثين :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٥
البحث الأول : أن الأنبياء عليهم السلام أفضل أم الملائكة ؟
وقد سبق ذكر هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـا ئِكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ﴾ (البقرة : ٣٤).
والبحث الثاني : أن عوام الملائكة وعوام المؤمنين أيهما أفضل ؟
منهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة. واحتجوا عليه بما روي عن زيد بن أسلم أنه قال : قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا ذاك في الآخرة، فقال : وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت له ﴿كُنَّ﴾ فكان. وقال أبو هريرة رضي الله عنه : المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده. هكذا أورده الواحدي في "البسيط"، وأما القائلون بأن الملك أفضل من البشر على الإطلاق فقد عولوا على هذه الآية، وهو في الحقيقة تمسك بدليل الخطاب لأن تقرير الدليل أن يقال : إن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد، وذلك تمسك بدليل الخطاب والله أعلم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٥
٣٧٨
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا ذكر أحوال درجاته في الآخرة في هذه الآية وفيها مسائل :
المسألة الأولى : قرىء يدعو بالياء والنون ويدعى كل أناس على البناء للمفعول وقرأ الحسن يدعو كل أناس قال الفراء وأهل العربية لا يعرفون وجهاً لهذه القراءة المنقولة عن الحسن ولعله قرأ يدعى بفتحة ممزوجة بالضم فظن الراوي أنه قرأ يدعو.
المسألة الثانية : قوله يوم ندعو نصب بإضمار اذكر ولا يجوز أن يقال العامل فيه قوله وفضلناهم لأنه فعل ماضٍ ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد ونفضلهم بما نعطيهم من الكرامة والثواب.
المسألة الثالثة : قوله :﴿بِإِمَـامِهِمْ ﴾ الإمام في اللغة كل من ائتم به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبي إمام أمته، والخليفة إمام رعيته، والقرآن إمام المسلمين وإمام القوم هو الذي يقتدي به في الصلاة وذكروا في تفسير الإمام ههنا أقوال، القول الأول : إمامهم نبيهم روي ذلك مرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم ويكون المعنى أنه ينادي يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بإيمانهم ثم ينادي يا أتباع فرعون يا أتباع نمروذ يا أتباع فلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر وعلى هذا القول فالباء في قوله بإمامهم فيه وجهان. الأول : أن يكون التقدير يدعو كل أناس بإمامهم تبعاً وشيعة لأمامهم كما تقول ادعوك باسمك. والثاني : أن يتعلق بمحذوف وذلك المحذوف في موضع الحال كأنه قيل يدعو كل أناس مختلطين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده. والقول الثاني : وهو قول الضحاك وابن زيد بإمامهم أي بكتابهم الذي أنزل عليهم وعلى هذا التقدير ينادي في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل. والقول الثالث : قال الحسن بكتابهم الذي فيه أعمالهم وهو قول الربيع وأبي العالية والدليل على أن هذا الكتاب يسمى إماماً قوله تعالى :﴿وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ (
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٨


الصفحة التالية
Icon