البحث الأول : أنا ذكرنا في تفسير قوله :﴿وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارْضِ﴾ (الإسراء : ٧٦) قولين : أحدهما : المراد منه سعي كفار مكة في إخراجه منها. والثاني : المراد منه أن اليهود قالوا له الأولى لك أن تخرج من المدينة إلى الشام ثم إنه تعالى قال له :﴿أَقِمِ الصَّلَواةَ﴾ واشتغل بعبادة الله تعالى ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهال فإنه تعالى ناصرك ومعينك ثم عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة فإن فسرنا تلك الآية أن المراد منها أن كفار مكة أرادوا إخراجه من مكة كان معنى هذه الآية أنه تعالى أمره بالهجرة إلى المدينة وقال له :﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ ـ وهو المدينة ـ ﴿وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ ـ وهو مكة. وهذا قول الحسن وقتادة وإن فسرنا تلك الآية بأن المراد منها أن اليهود / حملوه على الخروج من المدينة والذهاب إلى الشام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم منها ثم أمره الله بأن يرجع إليها كان المراد أنه عليه الصلاة والسلام عند العود إلى المدينة قال :﴿رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ وهو المدينة ـ ﴿وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ يعني أخرجني منها إلى مكة مخرج صدق أي افتحها لي. والقول الثاني : في تفسير هذه الآية وهو أكمل مما سبق أن المراد ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى﴾ ـ في الصلاة ـ ﴿وَأَخْرِجْنِى﴾ منها مع الصدق والإخلاص وحضور ذكرك والقيام بلوازم شكرك. والقول الثالث : وهو أكمل مما سبق أن المراد :﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ منها بعد الفراغ منها إخراجاً لا يبقى علي منها تبعة ربقية. والقول الرابع : وهو أعلى مما سبق :﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى﴾ في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك وقدسك ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد المنزه عن التكثيرات والتغيرات. والقول الخامس : أدخلني في كل ما تدخلني فيه مع الصدق في عبوديتك والاستغراق بمعرفتك وأخرجني عن كل ما تخرجني عنه مع الصدق في العبودية والمعرفة والمحبة والمقصود منه أن يكون صدق العبودية حاصلاً في كل دخول وخروج وحركة وسكون. والقول السادس : أدخلني القبر مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٨٩
البحث الثاني : مدخل بضم الميم مصدر كالإدخال يقال أدخلته مدخلاً كما قال :﴿وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلا مُّبَارَكًا﴾ (المؤمنون : ٢٩) ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما كأنه سأل الله تعالى إدخالاً حسناً وإخراجاً حسناً لا يرى فيهما ما يكره ثم قال تعالى :﴿وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَـانًا نَّصِيرًا﴾ (الإسراء : ٨٠) أي حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني. وبالجملة فقد سأل الله تعالى أن يرزقه التقوية على من خالفه بالحجة وبالقهر والقدرة، وقد أجاب الله تعالى دعاءه وأعلمه بأنه يعصمه من الناس فقال :﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ (المائدة : ٦٧) وقال :﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (المجادلة : ٢٢) وقال :﴿لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه ﴾ (التوبة : ٣٣) ولما سأل الله النصرة بين الله له أنه أجاب دعاءه فقال :﴿وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ﴾ وهو دينه وشرعه ـ ﴿وَزَهَقَ الْبَـاطِلُ ﴾ وهو كل ما سواه من الأديان والشرائع، وزهق بطل واضمحل، وأصله من زهقت نفسه تزهق أي هلكت، وعن ابن مسعود :"أنه دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل فجعل الصنم ينكب على وجهه". وقوله :﴿إِنَّ الْبَـاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ يعني أن الباطل وإن اتفقت له دولة وصولة إلا أنها الا تبقى بل تزول على أسرع الوجوه والله أعلم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٨٩
٣٩١