عبس : ١٧ ـ ٢٢) وهذا تصريح بأن الإنسان شيء مخلوق من النطفة، وأنه يموت ويدخل القبر ثم إنه تعالى يخرجه من القبر، ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثة لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة. الثالث : قوله :﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى قوله :﴿يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ﴾ (آل عمران : ١٦٩، ١٧٠) وهذا يدل على أن الروح جسم لأن الأرزاق والفرح من صفات الأجسام. الجواب عن الأول : أن المساواة في أنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز مساواة في صفة سلبية والمساواة في الصفة السلبية لا توجب المماثلة واعلم أن جماعة من الجهال يظنون أنه لما كان الروح موجوداً ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وجب أن يكون مثلاً للإله أو جزءاً للإله وذلك جهل فاحش وغلط قبيح وتحقيقه ما ذكرناه من أن المساواة في السلوب / لو أوجبت المماثلة لوجب القول باستواء كل المختلفات وأن كل ماهيتين مختلفتين فلا بد أن يشتركا في سلب كل ما عداهما، فلتكن هذه الدقيقة معلومة فإنها مغلطة عظيمة للجهال، والجواب عن الثاني : أنه لما كان الإنسان في العرف والظاهر عبارة عن هذه الجثة أطلق عليه اسم الإنسان في العرف، والجواب عن الثالث : أن الرزق المذكور في الآية محمول على ما يقوي حالهم ويكمل كمالهم وهو معرفة الله ومحبته بل نقول هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا لأن أبدانهم قد بليت تحت التراب والله تعالى يقول إن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وهذا يدل على أن الروح غير البدن وليكن هذا آخر كلامنا في هذا الباب ولنرجع إلى علم التفسير ثم قال تعالى :﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ وعلى قولنا قد ذكرنا فيه احتمالين، أما المفسرون فقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا ؟
فقال عليه الصلاة والسلام :"بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً" فقالوا ما أعجب شأنك يا محمد ساعة تقول :"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً" وساعة تقول هذا. فنزل قوله :﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ﴾ (لقمان : ٢٧) إلى آخره وما ذكروه ليس بلازم لأن الشيء قد يكون قليلاً بالنسبة إلى شيء كثيراً بالنسبة إلى شيء آخر فالعلوم الحاصلة عند الناس قليلة جداً بالنسبة إلى علم الله وبالنسبة إلى حقائق الأشياء ولكنها كثيرة بالنسبة إلى الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٩١
٤٠٦
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه ما آتاهم ﴿مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ بين في هذه الآية أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضاً لقدر عليه وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان أمراً مخالفاً للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه.
المسألة الثانية : احتج الكعبي بهذه الآية على أن القرآن مخلوق فقال والذي يقدر على إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديماً بل يجب أن يكون محدثاً. وهذا الاستدلال بعيد لأن المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب وإزالة النقوش الدالة عليه عن المصحف وذلك لا يوجب كون ذلك المعلوم المدلول محدثاً وقوله :﴿ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِه عَلَيْنَا وَكِيلا﴾ أي لا تجد من تتوكل عليه في رد شيء منه ثم قال :﴿إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به وهذا امتنان من الله / ببقاء القرآن على أنه تعالى من على جميع العلماء بنوعين من المنة. أحدهما : تسهيل ذلك العلم عليه. الثاني : إبقاء حفظه عليه وقوله :﴿إِنَّ فَضْلَه كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾ فيه قولان : الأول : المراد أن فضله كان عليك كبيراً بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك. الثاني : المراد أن فضله كان عليك كبيراً بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود فلما كان كذلك لا جرم أنعم عليك أيضاً بإبقاء العلم والقرآن عليك.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٠٦
٤٠٦
في الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon