البحث الثالث : تقرير هذا الجواب أن يقال : إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء أو طلبتم مني أن أطلب من الله تعالى إظهارها على يدي لتدل على كوني رسولاً حقاً من عند الله. والأول باطل لأني بشر والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء والثاني أيضاً باطل لأني قد أتيتكم بمعجزة واحدة وهي القرآن والدلالة على كونها معجزة فطلب هذه المعجزات طلب لما لا حاجة إليه ولا ضرورة فكأن طلبها يجري مجرى التعنت والتحكم وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على الله فسقط هذا السؤال فثبت أن قوله :﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا﴾ جواب كاف في هذا الباب، وحاصل الكلام أنه سبحانه بين بقوله :﴿سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا﴾ كونهم على الضلال في الإلهيات، وفي النبوات. أما في الإلهيات فيدل على ضلالهم قوله سبحان ربي أي سبحانه عن أن يكون له إتيان ومجيء وذهاب وأما في النبوات فيدل على ضلالهم قوله :﴿هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا﴾ وتقريره ما ذكرناه.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤١٠
٤١٠
اعلم أنه تعالى لما حكى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزائدة وأجاب عنها حكى عنهم شبهة أخرى وهي أن القوم استبعدوا أن يبعث الله إلى الخلق رسولاً من البشر بل اعتقدوا أن الله تعالى لو أرسل رسولاً إلى الخلق لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه. الأول : قوله :﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى ﴾ وتقرير هذا الجواب أن بتقدير أن يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الخلق فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولاً من عند الله لأجل قيام المعجز الدال على صدقه وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة ذلك الملك في إدعاء رسالة الله تعالى فالمراد من قوله تعالى :﴿إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى ﴾ هو المعجز فقط فهذا المعجز سواء ظهر على يد الملك أو على يد البشر وجب الإقرار برسالته فثبت أن يكون قولهم بأن الرسول لا بد وأن يكون / من الملائكة تحكماً فاسداً وتعنتاً باطلاً. الوجه الثاني : من الأجوبة التي ذكرها الله في هذه الآية عن هذه الشبهة هو أن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة لأن الجنس إلى الجنس أميل أما لو كان أهل الأرض من البشر لوجب أن يكون رسولهم من البشر وهو المراد من قوله :﴿لَّوْ كَانَ فِى الارْضِ مَلَـا اـاِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَـاـاِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولا﴾. الوجه الثالث : من الأجوبة المذكورة في هذه الآية قوله :﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ وتقريره أن الله تعالى لما أظهر المعجزة على وفق دعواي كان ذلك شهادة من الله تعالى على كوني صادقاً ومن شهد الله على صدقه فهو صادق فبعد ذلك قول القائل بأن الرسول يجب أن يكون ملكاً لا إنساناً تحكم فاسد لا يلتفت إليه ولما ذكر الله تعالى هذه الأجوبة الثلاثة أردفها بما يجري مجرى التهديد والوعيد فقال :﴿إِنَّه كَانَ بِعِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا﴾ يعني يعلم ظواهرهم وبواطنهم ويعلم من قلوبهم أنهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد وحب الرياسة والاستنكاف من الانقياد للحق.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤١٠
٤١٢


الصفحة التالية
Icon