﴿فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الارْضِ﴾ يعني أراد فرعون أن يخرجهم يعني موسى وقومه بني إسرائيل، ومعنى تفسير الاستفزاز تقدم في هذه السورة من الأرض يعني أرض مصر، قال الزجاج : لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منهم بالقتل أو بالتنحية ثم قال :﴿فَأَغْرَقْنَـاهُ وَمَن مَّعَه جَمِيعًا﴾ المعنى ما ذكره الله تعالى في قوله :﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه ﴾ (فاطر : ٤٣) أراد فرعون أن يخرج موسى من أرض مصر لتخلص له تلك البلاد والله تعالى أهلك فرعون وجعل ملك مصر خالصة لموسى ولقومه وقال :﴿لِبَنِى إسرائيل اسْكُنُوا الارْضَ﴾ خالصة لكم خالية من عدوكم قال تعالى :﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاخِرَةِ﴾ يريد القيامة ﴿جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ من ها هنا وها هنا، واللفيف الجمع العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدنيء والمطيع والعاصي والقوي والضعيف. وكل شيء خلطته بشيء آخر فقد لففته، ومنه قيل لففت الجيوش إذا ضربت بعضها ببعض وقوله التفت الزحوف ومنه، التفت الساق بالساق، والمعنى جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطاً يعني جميع الخلق المسلم والكافر والبر والفاجر.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤١٦
٤١٨
اعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن معجز قاهر دال على الصدق في قوله :﴿قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ﴾ (الإسراء : ٨٨) ثم حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز بل طلبوا سائر المعجزات، ثم أجاب الله بأنه لا حاجة إلى إظهار سائر المعجزات وبين ذلك بوجوه كثيرة، منها أن قوم موسى عليه الصلاة والسلام آتاهم الله تسع آيات بينات فلما جحدوا بها أهلكهم الله فكذا ها هنا، ثم إنه تعالى لو آتى قوم محمد تلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها وجب إنزال عذاب الاستئصال بهم وذلك غير جائز في الحكمة لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن والذي لا يؤمن فسيظهر من نسله من يصير مؤمناً، ولما تم هذا الجواب عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة درجته فقال :﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ والمعنى أنه ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق وكما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع هذا المعنى وحصل وفي هذه الآية فوائد. الفائدة الأولى : أن الحق هو الثابت الذي لا يزول كما أن الباطل هو الزائل الذاهب، وهذا الكتاب الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ومشتمل أيضاً على شريعة باقية لا يتطرق إليها النسخ والنقض والتحريف، وأيضاً فهذا الكتاب كتاب تكفل الله بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ﴾ (الحجر : ٩) فكان هذا الكتاب حقاً من كل الوجوه. الفائدة الثانية : أن قوله :﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ﴾
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤١٨
يفيد الحصر / ومعناه أنه ما أنزل لمقصود آخر سوى إظهار الحق وقالت المعتزلة، وهذا يدل على أنه ما قصد بإنزاله إضلال أحد من الخلق ولا إغواؤه ولا منعه عن دين الله. الفائدة الثالثة : قوله :﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ يدل على أن الإنزال غير النزول، فوجب أن يكون الخلق غير المخلوق وأن يكون التكوين غير المكون على ما ذهب إليه قوم. الفائدة الرابعة : قال أبو علي الفارسي الباء في قوله :﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ﴾ بمعنى مع كما تقول نزل بعدته وخرج بسلاحه، والمعنى أنزلنا القرآن مع الحق وقوله :﴿وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ فيه احتمالان، أحدهما : أن يكون التقدير نزل بالحق كما تقول نزلت بزيد وعلى هذا التقدير الحق محمد صلى الله عليه وسلّم لأن القرآن نزل به أي عليه. الثاني : أن تكون بمعنى مع كما قلنا في قوله :﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ﴾ ثم قال تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ والمقصود أن هؤلاء الجهال الذين يقترحون عليك هذه المعجزات ويتمردون عن قبول دينك لا شيء عليك من كفرهم فإني ما أرسلتك إلا مبشراً للمطيعين ونذيراً للجاحدين فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء.
ثم قال :﴿وَقُرْءَانًا فَرَقْنَـاهُ لِتَقْرَأَه عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : أن القوم قالوا : هب إن هذا القرآن معجز إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة ليظهر فيه وجه الإعجاز فجعلوا إتيان الرسول بهذا القرآن متفرقاً شبهة في أنه يتفكر في فصل فصل ويقرأه على الناس فأجاب الله عنه بأنه إنما فرقه ليكون حفظه أسهل ولتكون الإحاطة والوقوف على دقائقه وحقائقه أسهل.