المسألة السابعة : في الفرق بين الكرامات والاستدراج، اعلم أن من أراد شيئاً فأعطاه الله مراده لم يدل ذلك على كون ذلك العبد وجيهاً عند الله تعالى سواء كانت العطية على وفق العادة أو لم تكن على وفق العادة بل قد يكون ذلك إكراماً للعبد وقد يكون استدراجاً له ولهذا الاستدراج أسماء كثيرة من القرآن، أحدها : الاستدراج قال الله تعالى :﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف : ١٨٢) ومعنى الاستدراج أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده فيزداد كل يوم بعداً من الله وتحقيقه أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرر الأفعال سبب لحصول الملكة الراسخة فإذا مال قلب العبد إلى الدنيا ثم أعطاه الله مراده فحينئذ يصل الطالب إلى المطلوب وذلك يوجب حصول اللذة وحصول اللذة يزيد في الميل وحصول الميل يوجب مزيد السعي ولا يزال يتأدى كل واحد منهما إلى الآخر وتتقوى كل واحدة من هاتين الحالتين درجة فدرجة ومعلوم أن الاشتغال بهذه اللذات العاجلة مانع عن مقامات المكاشفات ودرجات المعارف فلا جرم يزداد بعده عن الله درجة فدرجة إلى أن يتكامل فهذا هو الاستدراج. وثانيها : المكر قال تعالى :﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَـاسِرُونَ﴾ (الأعراف : ٩٩)، ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ﴾ (آل عمران : ٥٤) وقال :﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ (النمل : ٥٠). وثالثها : الكيد قال تعالى :﴿يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ﴾ (
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٤١
النساء : ١٤٢) وقال :﴿يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ﴾ (البقرة : ٩). ورابعها : الإملاء قال تعالى :﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لانفُسِهِم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ﴾ (آل عمران : ١٧٨). وخامسها :/ الإهلاك قال تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَا فَرِحُوا بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَـاهُم﴾ (الأنعام : ٤٤) وقال في فرعون :﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُه فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَـاهُ وَجُنُودَه فَنَبَذْنَـاهُمْ فِى الْيَمِّ ﴾ (القصص : ٣٩، ٤٠) فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات بقي علينا أن نذكر الفرق بين الكرامات وبين الاستدراجات. فنقول : إن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد وحذره من قهر الله أقوى فإنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج/ وأما صاحب الاستدراج فإنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه ويظن أنه إنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقاً لها وحينئذ يستحقر غيره ويتكبر عليه ويحصل له أمن من مكر الله وعقابه ولا يخاف سوء العاقبة فإذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجاً لا كرامة. فلهذا المعنى قال المحققون : أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أنواع البلاء. والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه :
الحجة الأولى : أن هذا الغرور إنما يحصل إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذ الكرامة لأن بتقدير أن لا يكون مستحقاً لها امتنع حصول الفرح بها بل يجب أن يكون فرحه بكرم المولى وفضله أكبر من فرحه بنفسه فثبت أن الفرح بالكرامة أكثر من فرحه بنفسه وثبت أن الفرح بالكرامة لا يحصل إلا إذا اعتقد أنه أهل ومستحق لها وهذا عين الجهل لأن الملائكة قالوا :﴿لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ ﴾ (البقرة : ٣٢) وقال تعالى :﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه ﴾ (الأنعام : ٩١) وأيضاً قد ثبت بالبرهان اليقيني أنه لا حق لأحد من الخلق على الحق فكيف يحصل ظن الاستحقاق.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٤١
الحجة الثانية : أن الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب عن الحق والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور.


الصفحة التالية
Icon