المسألة الثانية : في قوله :﴿بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ﴾ وجوه : الأول : المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل : ليس لفلان عمل بالغداة والعشي إلا شتم الناس. الثاني : أن المراد صلاة الفجر والعصر. الثالث : المراد أن الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النوم إلى اليقظة وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة والعشي هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من اليقظة إلى النوم ومن الحياة إلى الموت والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه، ثم قال :﴿وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره وجاء القوم عدا زيداً وإنما عدي بلفظة عن لأنها تفيد المباعدة فكأنه تعالى نهى عن تلك المباعدة وقرى :﴿وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ﴾ ولا تعد عينيك من أعداه وعداه نقلاً بالهمزة وتثقيل الحشو ومنه قوله شعر :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٥٨
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له
والمقصود من الآية أنه تعالى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أن يزدرى فقراء المؤمنين وأن تنبو عيناه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء وحسن صورتهم وقوله :﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ﴾ نصب في موضع الحال. يعني أنك (إن) فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا، ولما بالغ في أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين فقال :﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ وَكَانَ أَمْرُه فُرُطًا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهال لأن قوله :﴿أَغْفَلْنَا﴾ يدل على هذا المعنى، قالت المعتزلة : المراد بقوله تعالى :﴿أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا﴾ أنا وجدنا قلبه غافلاً وليس المراد خلق الغفلة فيه، والدليل عليه ما روي عن عمرو بن معديكرب الزبيدي أنه قال لبني سليم : قاتلناكم فما أجبناكم، وسألناكم فما ابخلناكم، وهجوناكم فما أفحمناكم، أي ما وجدناكم جبناء ولا بخلاء ولا مفحمين. ثم نقول : حمل اللفظ على هذا المعنى أولى ويدل عليه وجوه : الأول : أنه لو كان كذلك لما استحقوا الذم. الثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية :﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه لما صح ذلك. الثالث : لو كان المراد هو أنه تعالى جعل قلبه غافلاً لوجب أن يقال : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه. لأن على هذا التقدير يكون ذلك من أفعال المطاوعة، وهي إنما تعطف بالفاء لا بالواو، ويقال : كسرته فانكسر ودفعته فاندفع ولا يقال : وانكسر واندفع. الرابع : قوله تعالى :﴿وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ﴾ ولو كان تعالى أغفل في الحقيقة قلبه لم يجز أن يضاف ذلك إلى اتباعه هواه. والجواب : قوله المراد من قوله :﴿أَغْفَلْنَا﴾ أي وجدناه غافلاً، وليس المارد تحصيل الغفلة فيه. قلنا : الجواب عنه من وجهين. الأول : أن الاشتراك خلاف الأصل فوجب أن يعتقد أن وزن الأفعال حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وجعله حقيقة في التكوين مجازاً في الوجدان أولى من العكس وبيانه من وجوه : أحدها : أن مجيء بناء الأفعال بمعنى التكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان والكثرة دليل الرجحان. وثانيها : أن مبادرة الفهم من هذا البناء إلى التكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان ومبادرة الفهم دليل الرجحان. وثالثها : أنا إن جعلناه حقيقة في التكوين أمكن جعله مجازاً في الوجدان لأن العلم بالشيء تابع لحصول المعلوم، فجعل اللفظ حقيقة في المتبوع ومجازاً في التبع موافق للمعقول، أما لو جعلناه حقيقة في الوجدان مجازاً في الإيجاد لزم جعله حقيقة في التبع مجازاً في الأصل وأنه عكس المعقول فثبت أن الأصل جعل هذا البناء حقيقة في الإيجاد لا في الوجدان. الوجه الثاني : في الجواب عن السؤال أنا نسلم كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان إلا أنا نقول يجب حمل قوله :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٥٨


الصفحة التالية
Icon