المسألة الرابعة : أولئك خبر إن وإنا لا نضيع اعتراض ولك أن تجعل إنا لا نضيع وأولئك خبرين معاً ولك أن تجعل أولئك كلاماً مستأنفاً بياناً للأجر المبهم واعلم أنه تعالى لما أثبت الأجر المبهم أردفه بالتفصيل من وجوه : أولها : صفة مكانهم وهو قوله :﴿ أولئك لَهُمْ جَنَّـاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ﴾ والعدن في اللغة عبارة عن الإقامة فيجوز أن يكون المعنى أولئك لهم جنات إقامة كما يقال هذه دار إقامة، ويجوز أن يكون العدن إسماً لموضع معين من الجنة / وهو وسطها وأشرف أماكنها وقد استقصينا فيه فيما تقدم وقوله :﴿جَنَّـاتُ﴾ لفظ جمع فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى :﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ﴾ (الرحمن : ٤٦) ويمكن أن يكون المراد أن نصيب كل واحد من المكلفين جنة على حدة وذكر أن من صفات تلك الجنات أن الأنهار تجري من تحتها وذلك لأن أفضل المساكن في الدنيا البساتين التي يجري فيها الأنهار. وثانيها : إن لباس أهل الدنيا إما لباس التحلي، وإما لباس التستر، أما لباس التحلي فقال تعالى في صفته :﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ والمعنى أنه يحليهم الله تعالى ذلك أو تحليهم الملائكة وقال بعضهم على كل واحد منهم ثلاثة أسورة سوار من ذهب لأجل هذه الآية وسوار من فضة لقوله تعالى :﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ (الإنسان : ٢١) وسوار من لؤلؤ لقوله تعالى :﴿وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ (الحج : ٢٣)، وأما لباس التستر فقوله :﴿وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ والمراد من سندس الآخرة واستبرق الآخرة والأول هو الديباج الرقيق وهو الخز والثاني هو الديباج الصفيق وقيل أصله فارسي معرب وهو استبره، أي غليظ، فإن قيل : ما السبب في أنه تعالى قال في الحلي :﴿يُحَلَّوْنَ﴾ على فعل ما لم يسم فاعله وقال في السندس والاستبرق ويلبسون فأضاف اللبس إليهم، قلنا : يحتمل أن يكون اللبس إشارة إلى ما استوجبوه بعملهم وأن يكون الحلي إشارة إلى ما تفضل الله عليهم ابتداء من زوائد الكرم. وثالثها : كيفية جلوسهم فقال في صفتها متكئين فيها على الأرائك. قالوا : الأرائك جمع أريكة وهي سرير في حجلة، أما للسرير وحده فلا يسمى أريكة. ولما وصف الله تعالى هذه الأقسام قال :﴿نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾ والمراد أن يكون هذا في مقابلة ما تقدم ذكره من قوله :﴿وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا﴾.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٦١
٤٦٧
اعلم أن المقصود من هذا أن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين فبين الله تعالى أن ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنياً والغني فقيراً، أما الذي يجب / حصول المفاخرة به فطاعة الله وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبين ذلك بضرب هذا المثل المذكور في الآية فقال :﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ﴾ أي مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين كانا أخوين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه براطوس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وقيل هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٦٧
﴿قَالَ قَآاـاِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ﴾ (الصافات : ٥١) ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فأخذ كل واحد منهما النصف فاشترى الكافر أرضاً فقال المؤمن اللهم إني أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه داراً بألف فقال المؤمن : اللهم إني اشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال المؤمن اللهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور العين ثم اشترى أخوه خدماً وضياعاً بألف فقال المؤمن : اللهم إني اشتريت منك الولدان بألف فتصدق به ثم أصابه حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقوله تعالى :﴿جَعَلْنَا لاحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ﴾، فاعلم أن الله تعالى وصف تلك الجنة بصفات : الصفة الأولى : كونها جنة وسمى البستان جنة لاستتار ما يستتر فيها بظل الأشجار وأصل الكلمة من الستر والتغطية، والصفة الثانية : قوله :﴿وَحَفَفْنَـاهُمَا بِنَخْلٍ﴾ أي وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين نظيره قوله تعالى :﴿وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ (الزمر : ٧٥) أي واقفين حول العرش محيطين به، والحفاف جانب الشيء والأحفة جمع فمعنى قول القائل حف به القوم أي صاروا في أحفته وهي جوانبه قال الشاعر :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٦٧
له لحظات في حفافي سريره
إذا كرها فيها عقاب ونائل


الصفحة التالية
Icon