المسألة الثانية : قالت المشبهة قوله تعالى :﴿وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ (الفجر : ٢٢) يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وتعرض عليه أهل القيامة صفاً، وكذلك قوله تعالى :﴿لَّقَدْ جِئْتُمُونَا﴾ يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان، وأجيب عنه بأنه تعالى جعل وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم ويحاسبهم عليها عرضاً عليه، لا على أنه تعالى يحضر في مكان وعرضوا عليه ليراهم بعد أن لم يكن يراهم، ثم قال تعالى :﴿لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةا ﴾ وليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه، لأنهم خلقوا صغاراً ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد أنه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين في الدنيا على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار :/ ﴿لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةا ﴾ عراة حفاة بغير أموال ولا أعوان ونظيره قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ وقال تعالى :﴿أَفَرَءيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِـاَايَـاتِنَا وَقَالَ لاوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا﴾ (مريم : ٧٧ ـ ٨٠) ثم قال تعالى :﴿بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا﴾ أي كنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار تنكرون البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن البعث والقيامة حق، ثم قال تعالى :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٧١
﴿وَوُضِعَ الْكِتَـابُ﴾ والمراد أنه يوضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال، والمراد الجنس وهو صحف الأعمال :﴿فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ﴾ أي خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة وخائفين من ظهور ذلك لأهل الموقف فيفتضحون، وبالجملة يحصل لهم خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة عند الخلق ويقولون يا ويلتنا ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات :﴿مَالِ هَـاذَا الْكِتَـابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا ﴾ وهي عبارة عن الإحطاة بمعنى لا يترك شيئاً من المعاصي سواء كانت أو كبيرة إلا وهي مذكورة في هذا الكتاب ونظيره قوله تعالى :﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (الانفطار : ١٠ ـ ١٢) وقوله :﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الجاثية : ٢٩) وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة على تقدير أن المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة :﴿إِلا أَحْصَـاهَا ﴾ إلا ضبطها وحصرها، قال بعض العلماء : ضجوا من الصغائر قبل الكبائر. لأن تلك الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر فاحترزوا من الصغائر جداً :﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا :﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ معناه أنه لا يكتب عليه ما لم يفعل، ولا يزيد في عقابه المستحق، ولا يعذب أحداً بجرم غيره، بقي في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الجبائي : هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في مسائل : أحدها : أنه لو عذب عباده من غير فعل صدر منهم لكان ظالماً. وثانيها : أنه لا يعذب الأطفال بغير ذنب. وثالثها : بطلان قولهم لله أن يفعل ما يشاء ويعذب من غير جرم لأن الخلق خلقه إذ لو كان كذلك لما كان لنفي الظلم عنه معنى لأن بتقدير أنه إذا فعل أي شيء أراد لم يكن ظلماً منه لم يكن لقوله إنه لا يظلم فائدة فيقال له. أما الجواب عن الأولين فهو المعارضة بالعلم والداعي، وأما الجواب عن هذا الثالث فهو أنه تعالى قال :﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ (مريم : ٣٥) ولم يدل هذا على أن اتخاذ الولد صحيح عليه فكذا ههنا.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٧١


الصفحة التالية
Icon