المسألة الثالثة : إنما قال للكفار المفتخرين بأنسابهم وأموالهم على فقراء المسلمين / أفتتخذون إبليس وذريته أولياء من دون الله، لأن الداعي لهم إلى ترك دين محمد صلى الله عليه وسلّم هو النخوة وإظهار العجب. فهذا يدل على أن كل من أقدم على عمل أو قول بناء على هذا الداعي فهو متبع لإبليس حتى أن من كان غرضه في إظهار العلم والمناظرة التفاخر والتكبر والترفع فهو مقتد بإبليس وهو مقام صعب غرق فيه أكثر الخلق فنسأل الله الخلاص منه ثم قال تعالى :﴿بِئْسَ لِلظَّـالِمِينَ بَدَلا﴾ أي بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله به فأطاعه بدل طاعته، ثم قال :﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾ وفيه مسألتان :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٧٥
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الضمير في قوله :﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ﴾ إلى من يعود ؟
فيه وجوه : أحدها : وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذي اتخذتموهم أولياء خلق السموات والأرض ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله :﴿اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ (النساء : ٦٦) يعني ما أشهدتهم لأعتضد بهم والدليل عليه قوله :﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ أي وما كنت متخذهم فوضع الظاهر موضع المضمر بياناً لإضلالهم وقوله :﴿عَضُدًا﴾ أي أعواناً. وثانيها : وهو أقرب عندي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلّم إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال : إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل قوله تعالى :﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾ ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة، بل هم قوم كسائر الخلق، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد ؟
ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد ولا ذرية المملكة حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة، فلم تقدم عليها والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات. وفي هذه الآية المذكورة الأقرب هو ذكر أولئك الكفار وهو قوله تعالى :﴿بِئْسَ لِلظَّـالِمِينَ بَدَلا﴾ والمراد بالظالمين أولئك الكفار. وثالثها : أن يكون المراد من قوله :﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾ كون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة. فكأنه قيل لهم السعيد من حكم الله بسعادته في الأزل والشقي من حكم الله بشقاوته في الأزل، وأنتم غافلون عن أحوال الأزل كأنه تعالى قال :﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾ وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلو والكمال ولغيركم بالدناءة والذل، بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس فيما حكمتم به.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" قرىء وما كنت بالفتح، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم. وقرأ علي رضوان الله عليه :﴿مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ﴾ بالتنوين على الأصل. وقرأ الحسن :﴿عَضُدًا﴾ بسكون الضاد ونقل ضمتها إلى العين، وقرىء :﴿عَضُدًا﴾ بالفتح وسكون الضاد بضمتين / بفتحتين جمع عاضد كخادم وخدم وراصد ورصد من عضده إذا قواه وأعانه، واعلم أنه تعالى لما قرر أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتداء بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأحوال يوم القيامة فقال :﴿عَضُدًا * وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ وفيه أبحاث :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٧٥
البحث الأول : قرأ حمزة :(نقول) بالنون عطفاً على قوله :﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـا ئِكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ﴾ و﴿أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى﴾ ﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ والباقون قرأوا بالياء.
البحث الثاني : واذكر يوم نقول عطفاً على قوله :﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـا ئِكَةِ اسْجُدُوا ﴾.


الصفحة التالية
Icon