البحث الثاني : المعنى أنه لما جاءهم الهدى وهو الدليل الدال على صحة الإسلام، وثبت أنه / لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة والتخلية حاصلة. والأعذار زائلة فلم لم يقدموا على الإيمان ثم قال تعالى :﴿إِلا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاوَّلِينَ﴾ ـ وهو عذاب الاستئصال ـ ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا﴾ قرأ حمزة وعاصم والكسائي قبلاً بضم القاف والباء جميعاً وهو جمع قبيل بمعنى ضروب من العذاب تتواصل مع كونهم أحياء وقيل مقابلة وعياناً والباقون قبلاً بكسر القاف وفتح الباء أي عياناً أيضاً، وروى صاحب الكشاف قبلاً بفتحتين أي مستقبلاً. والمعنى أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول عذاب الاستئصال فيهلكوا، أو أن يتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا، واعلم أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا على هذين الشرطين، لأن العاقل لا يرضى بحصول هذين الأمرين إلا أن حالهم شبيه بحال من وقف العمل على هذين الشرطين. ثم بين تعالى أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعاً وبين مع هذه الأحوال أنه يوجد من الكفار المجادلة بالباطل لغرض دحض الحق. وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا يجادلونهم لما بينا أن المجادلة إنما تحصل من الجانبين وبين تعالى أيضاً أنهم اتخذوا آيات الله وهي القرآن وإنذارات الأنبياء هزواً وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة. قال النحويون ما في قوله :﴿وَمَآ أُنْذِرُوا ﴾ يجوز أن تكون موصولة ويكون العائد من الصلة محذوفاً ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إنذارهم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٧٦
٤٧٧
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار جدالهم بالباطل وصفهم بعده بالصفات الموجبة للخزي / والخذلان. الصفة الأولى : قوله :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه ﴾ أي لا ظلم أعظم من كفر من ترد عليه الآيات والبينات فيعرض عنها وينسى ما قدمت يداه أي مع إعراضه عن التأمل في الدلائل والبينات يتناسى ما قدمت يداه من الأعمال المنكرة والمذاهب الباطلة والمراد من النسيان التشاغل والتغافل عن كفره المتقدم. الصفة الثانية :(قوله) :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاه إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن﴾ وقد مر تفسير هذه الآية على الاستقصاء في سورة الأنعام، والعجب أن قوله :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاه ﴾ متمسك القدرية، وقوله :﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾ إلى آخر الآية متمسك الجبرية وقلما نجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر، والتجربة تكشف عن صدق قولنا. وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين ثم قال تعالى :﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ الغفور البليغ المغفرة وهو إشارة إلى دفع المضار ذو الرحمة الموصوف بالرحمة، وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة لا في الرحمة، لأن المغفرة ترك الإضرار وهو تعالى قد ترك مضار لا نهاية لها مع كونه قادراً عليها، أما فعل الرحمة فهو متناه لأن ترك ما لا نهاية له ممكن، أما فعل ما لا نهاية له فمحال ويمكن أن يقال : المراد أنه يغفر كثيراً لأنه ذو الرحمة ولا حاجة به إليها فيهبها من المحتاجين كثيراً ثم استشهد بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلاً من غير إمهال مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٧٧
﴿بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ﴾ وهو إما يوم القيامة، وإما في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح (وقوله) :﴿لَّن يَجِدُوا مِن دُونِه مَوْاـاِلا﴾ (أي) منجى ولا ملجأ، يقال وأل إذا لجأ، ووأل إليه إذا لجأ إليه، ثم قال تعالى :﴿وَتِلْكَ الْقُرَى ﴾ يريد قرى الأولين من ثمود وقوم لوط وغيرهم أشار إليها ليعتبروا، وتلك مبتدأ، والقرى صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأصناف الأجناس وأهلكناهم خبر والمعنى، وتلك أصحاب القرى أهلكناهم لما ظلموا مثل ظلم أهل مكة :﴿وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾ أي وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر، والمهلك الإهلاك أو وقته، وقرىء لمهلكهم بفتح الميم واللام مفتوحة أو مكسورة، أي لهلاكهم أو وقت هلاكهم، والموعد وقت أو مصدر، والمراد إنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتاً ليكونوا إلى التوبة أقرب.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٧٧
٤٨١


الصفحة التالية
Icon