البحث الثاني : قال الأكثرون إن ذلك العبد هو الخضر، وقالوا إنما سمي بالخضر لأنه كان لا يقف موقفاً إلا أخضر ذلك الموضع، قال الجبائي قد ظهرت الرواية أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل. فإن صح ذلك لم يجز أن يكون هذا العبد هو الخضر. وأيضاً فبتقدير أن يكون هذا العبد هو الخضر، وقد ثبت أنه يجب أن يكون نبياً فهذا يقتضي أن يكون الخضر أعلى شأناً من موسى صاحب التوراة/ لأنا قد بينا أن الألفاظ المذكورة في هذه الآيات تدل على أن ذلك كان يترفع على موسى، وكان موسى يظهر التواضع له إلا أن كون الخضر أعلى شأناً من موسى غير جائز لأن الخضر إما أن يقال إنه كان من بني إسرائيل أو ما كان من بني إسرائيل، فإن قلنا : إنه كان من بني إسرائيل (فقد) كان من أمة موسى لقوله تعالى : حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون :﴿أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل ﴾ (الشعراء : ١٧) والأمة لا تكون أعلى حالاً من النبي، وإن قلنا إنه ما كان من بني إسرائيل لم يجز أن يكون أفضل من موسى لقوله تعالى لبني إسرائيل :﴿وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ (البقرة : ٤٧) وهذه الكلمات تقوي قول من يقول : إن موسى هذا غير موسى صاحب التوراة.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٨٥
المسألة الثالثة : قوله :﴿وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ يفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند الله من غير واسطة، والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية، وللشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم اللدنية، وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول :/ إذا أدركنا أمراً من الأمور وتصورنا حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم وهو التصديق أو لا نحكم وهو التصور، وكل واحد من هذين القسمين فإما أن يكون نظرياً حاصلاً من غير كسب وطلب، وإما أن يكون كسبياً، أم العلوم النظرية فهي تحصل في النفس والعقل من غير كسب وطلب، مثل تصورنا الألم واللذة، والوجود والعدم، ومثل تصديقنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الواحد نصف الإثنين. وأما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم، وهذا الطريق على قسمين. أحدهما : أن يتكلف الإنسان تركب تلك العلوم البديهية النظرية حتى يتوصل بتركبها إلى استعلام المجهولات. وهذا الطريق هو المسمى بالنظر والتفكر والتدبر والتأمل والتروي والاستدلال، وهذا النوع من تحصيل العلوم هو الطريق الذي لا يتم إلا بالجهد والطلب. والنوع الثاني : أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضات والمجاهدات في أن تصير القوى الحسية والخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهر العقل، وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمل، وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية، إذا عرفت هذا فنقول : جواهر النفس الناطقة مختلفة بالماهية فقد تكون النفس نفساً مشرقة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالجواذب البدنية والنوازع الجسمانية فلا جرم كانت أبداً شديدة الاستعداد لقبول الجلايا القدسية والأنوار الإلهية، فلا جرم فاضت عليها من عالم الغيب تلك الأنوار على سبيل الكمال والتمام، وهذا هو المراد بالعلم اللدني وهو المراد من قوله :﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ﴾ وأما النفس التي ما بلغت في صفاء الجوهر وإشراق العنصر فهي النفس الناقصة البليدة التي لا يمكنها تحصيل المعارف والعلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه وتعلمه والقسم الأول بالنسبة إلى القسم الثاني كالشمس بالنسبة إلى الأضواء الجزئية وكالبحر بالنسبة إلى الجداول الجزئية وكالروح الأعظم بالنسبة إلى الأرواح الجزئية. فهذا تنبيه قليل على هذا المأخذ، ووراءه أسرار لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب. ثم قال تعالى :﴿قَالَ لَه مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى ا أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ وفيه مسألتان :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٨٥
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو ويعقوب ﴿رَشَدًا﴾ بفتح الراء والشين وعن ابن عباس رضي الله عنهما بضم الراء والشين والباقون بضم الراء وتسكين الشين قال القفال وهي لغات في معنى واحد يقال رَشَد ورُشْد مثل نكر ونكر كما يقال سقم وسقم وشغل وشغل وبخل وبخل وعدم وعدم وقوله ﴿رَشَدًا﴾ أي علماً ذا رشد قال القفال قوله :﴿رَشَدًا﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون الرشد راجعاً إلى الخضر أي مما علمك الله وأرشدك به. والثاني : أن يرجع ذلك إلى موسى ويكون المعنى على أن تعلمني وترشدني مما علمت.


الصفحة التالية
Icon