البحث الثالث : النكر أعظم من الإمر في القبح، وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة لأن ذلك ما كان اتلافاً للنفس لأنه كان يمكن أن لا يحصل الغرق، أما ههنا حصل الإتلاف قطعاً فكان أنكر وقيل إن قوله :﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْـاًا إِمْرًا﴾ أي عجباً والنكر أعظم من العجب وقيل النكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس فهو أبلغ في تقبيح الشيء من الإمر ومنهم من قال : الإمر أعظم. قال : لأن خرق السفينة يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذ القتل ليس إلا إتلاف شخص واحد وأيضاً الإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر وأنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه ما زاد على أن ذكره ما عاهده عليه فقال :﴿أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا﴾ وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه زاد ههنا لفظة لك لأن هذه اللفظة تؤكد التوبيخ فعند هذا قال موسى :﴿إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى ﴾ مع العلم بشدة حرصه على مصاحبته وهذا كلام نادم شديد الندامة ثم قال :﴿قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْرًا﴾ والمراد منه أنه يمدحه بهذه الطريقة من حيث احتمله مرتين أولاً وثانياً، مع قرب المدة وبقي مما يتعلق بالقراءة في هذه الآية ثلاثة مواضع : الأول : قرأ نافع برواية ورش وقالون وابن عامر وأبو بكر عن عاصم نكراً بضم الكاف في جميع القرآن والباقون ساكنة الكاف حيث كان وهما لغتان. الثاني : الكل قرأوا :﴿فَلا تُصَـاحِبْنِى ﴾ بالألف إلا يعقوب فإنه قرأ :(لا تصحبني) من صحب والمعنى واحد / الثالث : في ﴿لَّدُنِّى﴾ قراءات. الأولى : قراءة نافع وأبي بكر في بعض الروايات عن عاصم :﴿مِن لَّدُنِّى﴾ بتخفيف النون وضم الدال. الثانية : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم : مشددة النون وضم الدال. الثالثة : قرأ أبو بكر عن عاصم بالإشمام وغير إشباع. الرابعة :﴿مِن لَّدُنِّى﴾ بضم اللام وسكون الدال في بعض الروايات عن عاصم وهذه القراءات كلها لغات في هذه اللفظة.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٨٧
٤٨٩
اعلم أن تلك القرية هي أنطاكية وقيل هي الأيلة وههنا سؤالات : الأول : إن الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدم عليه موسى وذلك العالم لأن موسى كان من عادته عرض الحاجة وطلب الطعام ألا ترى أنه تعالى حكى عنه أنه قال في قصة موسى عند ورود ماء مدين :﴿رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ (القصص : ٢٤). الجواب : أن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند خوف الضرر الشديد. السؤال الثاني : لم قال :﴿حَتَّى ا إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا﴾ وكان من الواجب أن يقال استطعما منهم، والجواب أن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر :
ليت الغراب غداة ينعب دائما
كان الغراب مقطع الأوداج
السؤال الثالث : إن الضيافة من المندوبات فتركها ترك للمندوب وذلك أمر غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله :﴿إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى ﴾ وأيضاً مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلاً عن كليم الله. الجواب : أما قوله الضيافة من المندوبات قلنا : قد تكون من المندوبات، وقد تكون من الواجبات بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل لهلك وإذا كان التقدير ما ذكرناه لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل يوماً، فإن قالوا : ما بلغ في الجوع إلى حد الهلاك بدليل أنه قال :﴿لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ وكان يطلب على إصلاح ذلك الجدار أجرة، ولو كان قد بلغ في الجوع إلى حد الهلاك لما قدر على ذلك العمل فكيف يصح منه طلب الأجرة قلنا لعل ذلك الجوع كان شديداً إلا أنه ما بلغ حد الهلاك، ثم قال تعالى :﴿فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا﴾ وفيه بحثان :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٨٩
البحث الأول : يضيفوهما يقال ضافه إذا كان له ضيفاً، وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض. ونظيره : زاره من الإزورار، وأضافه وضيفه أنزله، وجعله ضيفه، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم كانوا أهل قرية لئاماً.


الصفحة التالية
Icon