ونظيره من القرآن قوله تعالى :﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ﴾ وقوله :﴿أَن يَقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ وقوله :﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ﴾ وقوله :﴿أَن يَنقَضَّ﴾ يقال انقض إذا أسرع سقوطه من انقضاض الطائر وهو انفعل مطاوع قضضته. وقيل : انقض فعل من النقض كأحمر من الحمرة، وقرىء أن ينقض من النقض، وأن ينقاض من انقاضت العين إذا انشقت طولاً، وأما قوله :﴿فَأَقَامَه ﴾ قيل نقضه ثم بناه، وقيل : أقامه بيده، وقيل : مسحه بيده فقام واستوى وكان ذلك من معجزاته، واعلم أن ذلك العالم لما فعل ذلك. وكانت الحالة حالة اضطرار وافتقار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى ما قاله من قوله :﴿إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى ﴾ فلا جرم قال :﴿لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ أي طلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات، وقرىء :﴿لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ والتاء تخذت أصل كما في تبع، واتخذ / افتعل منه كقولنا اتبع من قولنا تبع، واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذا الكلام قال العالم :﴿هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ﴾ وههنا سؤالات. السؤال الأول : قوله : هذه إشارة إلى ماذا ؟
والجواب من وجهين : الأول : أن موسى عليه السلام قد شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالاً آخر يحصل الفراق حيث قال :﴿إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى ﴾ فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم وقال :﴿هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ﴾ أي هذا الفراق الموعود. الثاني : أن يكون قوله هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض هو سبب الفراق. السؤال الثاني : ما معنى قوله :﴿هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ﴾ ؟
الجواب : معناه هذا فراق حصل بيني وبينك، فأضيف المصدر إلى الظرف، حكى القفال عن بعض أهل العربية أن البين هو الوصل لقوله تعالى :﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ فكان المعنى هذا فراق بيننا، أي اتصالنا، كقول القائل : أخزى الله الكاذب مني ومنك، أي أحدنا هكذا قاله الزجاج، ثم قال العالم لموسى عليه السلام :﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاثة، وأصل التأويل راجع إلى قولهم آل الأمر إلى كذا أي صار إليه، فإذا قيل : ما تأويله فالمعنى ما مصيره.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٨٩
٤٩٣
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء صلوات الله عليهم مبنية على الظواهر كما قال عليه السلام :"نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر وذلك لأن الظاهر أنه يحرم التصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن تخريق السفينة تنقيص لملك الإنسان من غير سبب ظاهر، وقتل الغلام تفويت لنفس معصومة من غير سبب ظاهر، والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل التعب والمشقة من غير سبب ظاهر، وفي هذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنياً عن الأسباب الظاهرة المعلومة، بل كان ذلك الحكم مبنياً على أسباب معتبرة في نفس الأمر، وهذا يدل على أن ذلك العالم كان قد آتاه الله قوة عقلية قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور ويطلع بها على حقائق الأشياء فكانت مرتبة موسى عليه السلام في معرفة الشرائع والأحكام بناء الأمر على الظواهر وهذا العالم كانت مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائق الأمور والإطلاع على أسرارها الكامنة، فبهذا الطريق ظهر أن مرتبته في العلم كانت فوق مرتبة موسى عليه السلام. إذا عرفت هذا فنقول : المسائل الثلاثة مبنية على حرف واحد وهو أن عند تعارض الضررين يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى ؛ فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٩٣
أما المسألة الأولى : فلأن ذلك العالم علم أنه لو لم يعب تلك السفينة بالتخريق لغصبها ذلك الملك، وفاتت منافعها عن ملاكها بالكلية فوقع التعارض بين أن يخرقها ويعيبها فتبقى مع ذلك على ملاكها، وبين أن لا يخرقها فيغصبها الملك فتفوت منافعها بالكلية على ملاكها، ولا شك أن الضرر الأول أقل فوجب تحمله لدفع الضرر الثاني الذي هو أعظمهما.
وأما المسألة الثانية : فكذلك لأن بقاء ذلك الغلام حياً كان مفسدة للوالدين في دينهم وفي دنياهم، ولعله علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسد للأبوين، فهلذا السبب أقدم على قتله.


الصفحة التالية
Icon