البحث الثالث : قوله تعالى :﴿قُلْنَا يَـاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ يدل على أن سكان آخر المغرب كانوا كفاراً فخير الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب لهم إن أقاموا على كفرهم وبين المن عليهم والعفو عنهم وهذا التخيير على معنى الإجتهاد في أصلح الأمرين كما خير نبيه عليه السلام بين المن على المشركين وبين قتلهم، وقال الأكثرون : هذا التعذيب هو القتل، وأما اتخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء، ثم قال ذو القرنين :﴿أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُه ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّه فَيُعَذِّبُه عَذَابًا نُّكْرًا﴾ أي ظلم نفسه بالإقامة على الكفر. والدليل على أن هذا هو المراد أنه ذكر في مقابلته :﴿وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾ ثم قال :﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُه ﴾ أي بالقتل في الدنيا :﴿ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّه فَيُعَذِّبُه عَذَابًا نُّكْرًا﴾ أي منكراً فظيعاً :﴿وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَلَه جَزَآءً الْحُسْنَى ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم :﴿جَزَآءً الْحُسْنَى ﴾ بالنصب والتنوين والباقون بالرفع والإضافة، فعلى القراءة الأولى يكون التقدير فله الحسنى جزاء كما تقول لك هذا الثوب هبة، وأما على القراءة الثانية ففي التفسير وجهان. الأول : فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح. والثاني : أن يكون التقدير فله جزاء المثوبة الحسنى ويكون المعنى فله ذا الجزاء الذي هو المثوبة الحسنى والجزاء موصوف بالمثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله :﴿وَلَدَارُ الاخِرَةِ﴾ (الأنعام : ٣٢) و﴿حَقُّ الْيَقِينِ﴾ (الواقعة : ٩٥) ثم قال :﴿وَسَنَقُولُ لَه مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل الميسر من الزكاة والخراج وغيرهما وتقدير هذا يسر كقوله :﴿قَوْلا مَّيْسُورًا﴾ (الإسراء : ٢٨) وقرىء يسراً بضمتين.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٩٧
٤٩٨
اعلم أنه تعالى لما بين أولاً أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مغرب الشمس أتبعه ببيان أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مطلع الشمس فبين الله تعالى أنه وجد الشمس تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً وفيه قولان. الأول : أنه ليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم فلهذا السبب إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب واغلة في الأرض أو غاصوا في الماء فيكون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش حالهم بالضد من أحوال سائر الخلق. والقول الثاني : أن معناه أنه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبداً ويقال في كتب الهيئة إن حال أكثر الزنج كذلك وحال كل من يسكن البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك، وذكر في كتب التفسير أن بعضهم قال : سافرت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم، فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه الواحدة ويلبس الأخرى ولما قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرباً لهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج ثم قال تعالى :﴿كَذَالِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا﴾ وفيه وجوه : الأول : أي كذلك فعل ذو القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من / الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به. والثاني : كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسوله عليه السلام في هذا الذكر. والثالث : كذلك كانت حالته مع أهل المطلع كما كانت مع أهل المغرب، قضى في هؤلاء كما قضى في أولئك، من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين. والرابع : أنه تم الكلام عند قوله كذلك والمعنى أنه تعالى قال : أمر هؤلاء القوم كما وجدهم عليه ذو القرنين ثم قال بعده :﴿وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا﴾ أي كنا عالمين بأن الأمر كذلك.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٩٨
٤٩٩
اعلم أن ذا القرنين لما بلغ المشرق والمغرب أتبع سبباً آخر وسلك الطريق حتى بلغ بين السدين، وقد آتاه الله من العلم والقدرة ما يقوم بهذه الأمور. وههنا مباحث :


الصفحة التالية
Icon