المسألة الثانية : احتج المخالفون على الطعن في قول أصحابنا أن كلام الله تعالى واحد بهذه الآية، وقالوا : إنها صريحة في إثبات كلمات الله تعالى وأصحابنا حملوا الكلمات على متعلقات علم الله تعالى، قال الجبائي : وأيضاً قوله :﴿قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى﴾ يدل على أن كلمات الله تعالى قد تنفد في الجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه، وأيضاً قال :﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِه مَدَدًا﴾ وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه والذي يجاء به يكون محدثاً والذي يكون المحدث مثلاً له فهو أيضاً محدث وجواب أصحابنا أن المراد منه الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية، واعلم أنه تعالى لما بين كمال كلام الله أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن يسلك طريقة التواضع فقال :﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى ا إِلَىَّ﴾ أي لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد، والآية تدل على مطلوبين : الأول : أن كلمة ﴿إِنَّمَآ﴾ تفيد الحصر / وهي قوله :﴿أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ﴾. والثاني : أن كون الإله تعالى :﴿إِلَاهًا وَاحِدًا ﴾ يمكن إثباته بالدلائل السمعية، وقد قررنا هذين المطلوبين في سائر السور بالوجوه القوية، ثم قال :﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّه ﴾ والرجاء هو ظن المنافع الواصلة إليه والخوف ظن المضار الواصلة إليه، وأصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله وهذه المناظرة قد تقدمت والعجب أنه تعالى أورد في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات : أولها : قوله :﴿ أولئك الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَايَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآا ِه ﴾ (الكهف : ١٠٥). وثانيها : قوله :﴿كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا﴾ (الكهف : ١٠٧) وثالثها : قوله :﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّه ﴾ ولا بيان أقوى من ذلك ثم قال :﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا﴾ أي من حصل له رجاء لقاء الله فليشتغل بالعمل الصالح/ ولما كان العمل الصالح قد يؤتي به لله وقد يؤتى به للرياء والسمعة لا جرم اعتبر فيه قيدان : أن يؤتى به لله، وأن يكون مبرأ عن جهات الشرك، فقال :﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّه أَحَدَا ﴾. قيل : نزلت هذه الآية في جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم :"إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه أحد سرني" فقال عليه الصلاة والسلام :"إن الله لا يقبل ما شورك فيه" وروي أيضاً أنه قال له :"لك أجران أجر السر وأجر العلانية" فالرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة، والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدى به، والمقام الأول مقام المبتدئين، والمقام الثاني مقام الكاملين والحمد صلى الله عليه وسلّم رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٠٥
٥٠٥


الصفحة التالية
Icon