المسألة الثالثة : في هذه الآية سؤالان : الأول : أن زكريا عليه السلام لم تعجب بقوله :﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ﴾ مع أنه هو الذي طلب الغلام ؟
السؤال الثاني : أن قوله أنى يكون لي غلام لم يكن هذا مذكوراً بين أمته لأنه كان يخفي هذه الأمور عن أمته فدل على أنه ذكره في نفسه، وهذا التعجب يدل على كونه شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك وذلك كفر وهو غير جائز على الأنبياء عليهم / السلام. والجواب عن السؤال الأول : أما على قول من قال إنه لم يطلب خصوص الولد فالسؤال زائل، وأما على قول من قال إنه طلب الولد فالجواب عنه أن المقصود من قوله :﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ﴾ هو التعجب من أنه تعالى يجعلهما شابين ثم يرزقهما الولد أو يتركهما شيخين ويرزقهما الولد مع الشيخوخة بطريق الاستعلام لا بطريق التعجب، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّه رَبِّ لا تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَه وَوَهَبْنَا لَه يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَه زَوْجَه ا ﴾ (الأنبياء : ٨٩، ٩٠) وما هذا الإصلاح إلا أنه أعاد قوة الولادة وقد تقدم تقرير هذا الكلام، وذكر السدي في الجواب وجهاً آخر فقال : إنه لما سمع النداء بالبشارة جاءه الشيطان فقال : إن هذا الصوت ليس من الله تعالى بل هو من الشيطان يسخر منك، فلما شك زكريا قال :﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ﴾ واعلم أن غرض السدي من هذا أن زكريا عليه السلام لو علم أن المبشر بذلك هو الله تعالى لما جاز له أن يقول ذلك فارتكب هذا، وقال بعض المتكلمين هذا باطل قطعاً إذ لو جوز الأنبياء في بعض ما يرد عن الله تعالى أنه من الشيطان لجوزوا في سائره ولزالت الثقة عنهم في الوحي وعنا فيما يوردونه إلينا ويمكن أن يجاب عنه بأن هذا الاحتمال قائم في أول الأمر وإنما يزول بالمعجزة فلعل المعجزة لم تكن حاصلة في هذه الصورة فحصل الشك فيها دون ما عداها والله أعلم، والجواب عن السؤال الثاني من وجوه : الأول : أن قوله :﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـامٍ اسْمُه يَحْيَى ﴾ (مريم : ٧) ليس نصاً في كون ذلك الغلام ولداً له بل يحتمل أن زكريا عليه السلام راعى الأدب ولم يقل هذا الكلام هل يكون لي ولد أم لا، بل ذكر أسباب تعذر حصول الولد في العادة حتى أن تلك البشارة إن كانت بالولد فالله تعالى يزيل الإبهام ويجعل الكلام صريحاً فلما ذكر ذلك صرح الله تعالى بكون ذلك الولد منه فكان الغرض من كلام زكريا هذا لا أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى عليه. الثاني : أنه ما ذكر ذلك للشك لكن على وجه التعظيم لقدرته وهذا كالرجل الذي يرى صاحبه قد وهب الكثير الخطير فيقول أنى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك تعظيماً وتعجباً. الثالث : أن من شأن من بشر بما يتمناه أن يتولد له فرط السرور به عند أول ما يرد علي استثبات ذلك الكلام إما لأن شدة فرحه به توجب ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت باسحق قالت :﴿وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا ﴾ (هود : ٧٢) فأزيل تعجبها بقوله :﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّه ﴾ (هود : ٧٣) وإما طلباً للالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى، وإما مبالغة في تأكيد التفسير.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥١٤
٥١٥
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله :﴿قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ﴾ وجوه. أحدها : أن الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديقاً له ثم ابتدأ قال ربك. وثانيها : نصب يقال وذلك إشارة إلى مبهم تفسيره / هو علي هين وهو كقوله تعالى :﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَالِكَ الامْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـا ؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾ (الحجر : ٦٦) وثالثها ؛ أن المراد لا تعجب فإنه كذلك قال ربك لا خلف في قوله ولا غلط ثم قال بعده هو علي هين بدليل خلقتك من قبل ولم تك شيئاً. ورابعها : أن اذكرنا أن قوله أنى يكون لي غلام معناه تعطيني الغلام بأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة ومع ذلك تعطينا الولد، وقوله :﴿كَذَالِكَ قَالَ رَبُّكَ﴾ أي نهب الولد مع بقائك وبقاء زوجتك على الحاصلة في الحال.
المسألة الثانية ؛ قرأ الحسن وهو علي هين وهذا لا يخرج إلا على الوجه الأول أي الأمر كما قلت ولكن قال ربك هو مع ذلك علي هين.
المسألة الثالثة : إطلاق لفظ الهين في حق الله تعالى مجاز لأن ذلك إنما يجوز في حق من يجوز أن يصعب عليه شيء ولكن المراد أنه إذا أراد شيئاً كان.


الصفحة التالية
Icon