المسألة الأولى : أن قوله :﴿وَعَشِيًّا * يَـايَحْيَى خُذِ الْكِتَـابَ﴾ يدل على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك فحذف ذكره لدلالة الكلام عليه.
المسألة الثانية : الكتاب المذكور يحتمل أن يكون هو التوراة التي هي نعمة الله على بني إسرائيل لقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ (الجاثية : ١٦) ويحتمل أن يكون كتاباً خص الله به يحيى كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك والأول أولى لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ولا معهود ههنا إلا التوراة.
المسألة الثالثة : قوله :﴿بِقُوَّةٍ ﴾ ليس المراد منه القدرة على الأخذ لأن ذلك معلوم لكل أحد فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهي عنه. الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿وَءَاتَيْنَـاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ اعلم أن في الحكم أقوالاً. الأول : أنه الحكمة ومنه قول الشاعر :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٢٠
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
إلى حمام سراع وارد الثمد
وهو الفهم في التوراة والفقه في الدين. والثاني : وهو قول معمر أنه العقل روي أنه قال ما للعب خلقنا. والثالث : أنه النبوة فإن الله تعالى أحكم عقله في صباه وأوحى إليه وذلك لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام وهما صبيان لا كما بعث موسى ومحمداً عليهما السلام، وقد بلغا الأشد والأقرب حمله على النبوة لوجهين : الأول : أن الله تعالى ذكر في هذه الآية صفات شرفه ومنقبته ومعلوم أن النبوة أشرف صفات الإنسان فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها فوجب أن تكون نبوته مذكورة في هذه الآية ولا لفظ يصلح للدلالة على النبوة إلا هذه / اللفظة فوجب حملها عليها. الثاني : أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره ولغيره على الإطلاق وذلك لا يكون إلا بالنبوة فإن قيل كيف يعقل حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا ؟
قلنا : هذا السائل، إما أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع منه، فإن منع منه فقد سد باب النبوات لأن بناء الأمر فيها على المعجزات ولا معنى لها إلا خرق العادات، وإن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلاً أشد من استبعاد انشقاق القمر وانفلاق البحر. الصفة الثالثة ؛ قوله تعالى :﴿وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا﴾ اعلم أن الحنان أصله من الحنين وهو الارتياح والجزع للفراق كما يقال : حنين الناقة وهو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها ذكر الخليل ذلك في الحديث :"أنه عليه السلام كان يصلي إلى جذع من المسجد فلما اتخذ له المنبر وتحول إليه حنت تلك الخشبة حتى سمع حنينها". فهذا هو الأصل ثم قيل : تحنن فلان على فلان إذا تعطف عليه ورحمه، وقد اختلف الناس في وصف الله بالحنان فأجازه بعضهم، وجعله بمعنى الرؤوف الرحيم، ومنهم من أباه لما يرجع إليه أصل الكلمة قالوا : لم يصح الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى، إذا عرفت هذا فنقول : الحنان هنا فيه وجهان. أحدهما : أن يجعل صفة لله. وثانيهما : أن يجعل صفة ليحيى أما إذا جعلناه صفة لله تعالى فنقول : التقدير وآتيناه الحكم حناناً أي رحمة منا، ثم ههنا احتمالات : الأول : أن يكون الحنان من الله ليحيى، المعنى : آتيناه الحكم صبياً، ثم قال :﴿وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا﴾ أي إنما آتيناه الحكم صبياً حناناً من لدنا عليه أي رحمة عليه وزكاة أي وتزكية له وتشريفاً له. الثاني : أن يكون الحنان من الله تعالى لزكريا عليه السلام فكأنه تعالى قال : إنما استجبنا لزكريا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبياً وحناناً من لدنا عليه أي على زكريا فعلنا ذلك.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٢٠


الصفحة التالية
Icon