جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٢٠
﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَـامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه ا قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ (آل عمران : ٣٧، ٣٨) والمعنى أن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم عليها السلام طمع فيه في حق نفسه فدعا. الثاني : وهو أن الله تعالى صرح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة لقوله :﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ﴾ (آل عمران : ٣٩) وفي هذه السورة الأظهر أن المنادي بقوله :﴿رَضِيًّا * يَـازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ﴾ (مريم : ٧) هو الله تعالى وقد بينا أنه لا منافاة بين الأمرين. الثالث : أنه قال في آل عمران :﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ ﴾ (آل عمران : ٤٠) فذكر أولاً كبر نفسه ثم عقر المرأة وهو في هذه السورة قال :﴿أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَـامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ (مريم : ٨) وجوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب. الرابع : قال في آل عمران :﴿وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ﴾ وقال ههنا وقد بلغت من الكبر وجوابه أن ما بلغك فقد بلغته. الخامس : قال في آل عمران :﴿أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُر﴾ (آل عمران : ٤١) وقال ههنا :﴿ثَلَـاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ (مريم : ١٠) وجوابه : دلت الآيتان على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهن والله أعلم. القصة الثانية : قصة مريم وكيفية ولادة عيسى عليه السلام اعلم أنه تعالى إنما قدم قصة يحيى على قصة عيسى عليهما السلام لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد لا من الأب البتة وأحسن الطرق في التعليم والتفهيم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقياً إلى الأصعب فالأصعب.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٢٠
٥٢١
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إذ بدل من مريم بدل اشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقت هذا الوقوع لهذه القصة العجيبة فيه.
المسألة الثانية : النبذ أصله الطرح والإلقاء والانتباذ افتعال منه ومنه :﴿فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ (آل عمران : ١٨٧) وانتبذت تنحت يقال جلس نبذة من الناس ونبذة بضم النون وفتحها أي ناحية وهذا إذا جلس قريباً منك حتى لو نبذت إليه شيئاً وصل إليه ونبذت الشيء رميته ومنه النبيذ لأنه يطرح في الإناء / وأصله منبوذ فصرف إلى فعيل ومنه قيل للقيط منبوذ لأنه يرمى به ومنه النهي عن المنابذة في البيع وهو أن يقول : إذا نبذت إليك هذا الثوب أو الحصاة فقد وجب البيع إذ عرفت هذا فنقول قوله تعالى :﴿إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ معناه تباعدت وانفردت على سرعة إلى مكان يلي ناحية الشرق ثم بين تعالى أنها مع ذلك اتخذت من دون أهلها حجاباً مستوراً وظاهر ذلك أنها لم تقتصر على أن انفردت إلى موضع بل جعلت بينها وبينهم حائلاً من حائط أو غيره ويحتمل أنها جعلت بين نفسها وبينهم ستراً وهذا الوجه الثاني أظهر من الأول ثم لا بد من احتجابها من أن يكون لغرض صحيح وليس مذكوراً واختلف المفسرون فيه على وجوه. الأول : أنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد للعبادة لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود فلما طهرت جاءها جبريل عليه السلام. والثاني : أنها طلبت الخلوة لئلا تشتغل عن العبادة. والثالث : قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بشيء يسترها. والرابع : أنها كان لها في منزل زوج أختها زكرياء محراب على حدة تسكنه وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت (على) الله (أن) تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت إلى المفازة فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك. وخامسها : عطشت فخرجت إلى المفازة لتستقي واعلم أن كل هذه الوجوه محتمل وليس في اللفظ ما يدل على ترجيح واحد منها.
المسألة الثالثة : المكان الشرقي هو الذي يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقوله تعالى :﴿مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٢١