المسألة الثانية : قيل حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة، وقيل بنت عشرين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأحوال.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٢٦
المسألة الثالثة :﴿فَانتَبَذَتْ بِه ﴾ أي اعتزلت وهو في بطنها كقوله :﴿تَنابُتُ بِالدُّهْنِ﴾ (المؤمنون : ٢٠) أي تنبت والدهن فيها، واختلفوا في علة الإنتباذ على وجوه. أحدها : ما رواه الثعلبي في "العرائس" عن وهب قال : إن مريم لما حملت بعيسى عليه السلام كان معها ابن عم لها يقال له يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم في أهل زمانهما أحد أشد اجتهاداً ولا عبادة منهما، وأول من عرف حمل مريم يوسف فتحير في أمرها فكلما أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وعبادتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط، وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها من الحمل فأول ما تكلم أنه قال إنه وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه فغلبني ذلك فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري، فقالت : قل قولاً جميلاً قال : أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث، وهل يكون ولد من غير ذكر ؟
قالت نعم : ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر، ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة، أو تقول إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها، فقال يوسف : لا أقول هذا ولكني أقول إن الله قادر على ما يشاء فيقول له كن فيكون/ فقالت له مريم : أو لم / تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى ؟
فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب، فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له، فلما بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة، وذلك في زمان برد فاحتضنتها فوضعت عندها. وثانيها : أنها استحيت من زكريا فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا. وثالثها : أنها كانت مشهورة في بني إسرائيل بالزهد لنذر أمها وتشاح الأنبياء في تربيتها وتكفل زكريا بها، ولأن الرزق كان يأتيها من عند الله تعالى، فلما كانت في نهاية الشهرة استحيت من هذه الواقعة فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا. ورابعها : أنها خافت على ولدها لو ولدته فيما بين أظهرهم، واعلم أن هذه الوجوه محتملة، وليس في القرآن ما يدل على شيء منها.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٢٦
المسألة الرابعة : اختلفوا في مدة حملها على وجوه : الأول : قول ابن عباس رضي الله عنهما إنها كانت تسعة أشهر كما في سائر النساء بدليل أن الله تعالى ذكر مدائحها في هذا الموضع فلو كانت عادتها في مدة حملها بخلاف عادات النساء لكان ذلك أولى بالذكر. الثاني : أنها كانت ثمانية أشهر، ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى ابن مريم عليه السلام. الثالث : وهو قول عطاء وأبي العالية والضحاك سبعة أشهر. الرابع : أنها كانت ستة أشهر. الخامس : ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة. السادس : وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً كانت مدة الحمل ساعة واحدة ويمكن الاستدلال عليه من وجهين : الأول : قوله تعالى :﴿فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِه ﴾ (مريم : ٢٣) ﴿فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ﴾ (مريم : ٢٣)، ﴿فَنَادَاـاهَا مِن تَحْتِهَآ﴾ (مريم : ٢٤) والفاء للتعقيب فدلت هذه الفاءات على أن كل واحد من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل وذلك يوجب كون مدة الحمل ساعة واحدة لا يقال انتباذها مكاناً قصياً كيف يحصل في ساعة واحدة لأنا نقول : السدي فسره بأنها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها. الثاني : أن الله تعالى قال في وصفه :﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران : ٥٩) فثبت أن عيسى عليه السلام كما قال الله تعالى له :﴿كُن فَيَكُونُ﴾ وهذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل، وإنما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة.
المسألة الخامسة :﴿قَصِيًّا﴾ أي بعيد من أهلها، يقال مكان قاص، وقصي بمعنى واحد مثل عاص وعصي، ثم اختلفوا فقيل : أقصى الدار، وقيل وراء الجبل، وقيل : سافرت مع ابن عمها يوسف وقد تقدمت هذه الحكاية.


الصفحة التالية
Icon