المسألة الأولى : فناداها من تحتها القراءة المشهورة فناداها وقرأ زر وعلقمة فخاطبها وفي الميم فيها قراءتان فتح الميم وهو المشهور وكسره وهو قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص وفي المنادي ثلاثة أوجه : الأول : أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير. والثاني : أنه جبريل عليه السلام وأنه كان كالقابلة للولد. والثالث : أن المنادي على القراءة بالكسر هو الملك وعلى القراءة بالفتح هو عيسى عليه السلام وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم والأول أقرب لوجوه : الأول : أن قوله :﴿فَنَادَاـاهَا مِن تَحْتِهَآ﴾ بفتح الميم إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحداً والذي علم كونه حاصلاً تحتها هو عيسى عليه السلام فوجب حمل اللفظ عليه، وأما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادي جبريل عليه السلام، فقد صح قولنا. الثاني : أن ذلك الموضع موضع اللوث والنظر إلى العورة وذلك لا يليق بالملائكة. الثالث : أن قوله فناداها فعل ولا بد وأن يكون فاعله قد تقدم ذكره ولقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل وذكر عيسى عليهما السلام إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى :﴿فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِه ﴾ (مريم : ٢٢) والضمير ههنا عائد إلى المسيح فكان حمله عليه أولى. والرابع : وهو دليل الحسن بن علي عليه السلام أن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام بالكلام فأما من قال المنادي هو عيسى عليه السلام فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل عليه السلام من علو شأن ذلك الولد ومن قال المنادي جبريل عليه السلام قال إنه أرسل إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيراً لها بما تقدم من أصناف البشارات، وأما قوله :﴿مِن تَحْتِهَآ﴾ فإن حملناه على الولد فلا سؤال وإن حملناه على الملك ففيه وجهان : الأول : أن يكونا معاً في مكان مستو ويكون هناك مبدأ معين كتلك النخلة ههنا فكل من كان أقرب منها كان فوق وكل من كان أبعد منها كان تحت وفسر الكلبي قوله تعالى :﴿إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ (الأحزاب : ١٠) بذلك وعلى هذا الوجه قال بعضهم :/ إنه ناداها من أقصى الوادي. والثاني : أن يكون موضع أحدهما أعلى من موضع الآخر فيكون صاحب العلو فوق صاحب السفل وعلى هذا الوجه روي عن عكرمة أنها كانت حين ولدت على مثل رابية وفيه وجه ثالث : يحكى عن عكرمة وهو أن جبريل عليه السلام ناداها من تحت النخلة ثم على التقديرات الثلاثة يحتمل أن تكون مريم قد رأته وأنها ما رأته وليس في اللفظ ما يدل على شيء من ذلك.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٢٩
المسألة الثانية : اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه وأما الحسن وابن زيد فجعلا السري عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال فلان من سروات قومه أي من أشرافهم وروي أن الحسن رجع عنه وروي عن قتادة وغيره أن الحسن تلا هذه الآية وبجنبه حميد بن عبد الرحمن الحميري :﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ فقال : إن كان لسرياً وإن كان لكريماً/ فقال له حميد : يا أبا سعيد إنما هو الجدول فقال له الحسن من ثم تعجبنا مجالستك، واحتج من حمله على النهر بوجهين : أحدهما : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن السري فقال : هو الجدول. والثاني : أن قوله :﴿فَكُلِى وَاشْرَبِى﴾ يدل على أنه نهر حتى ينضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب واحتج من حمله (على) عيسى بوجهين : الأول : أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جانبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد منه أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله :﴿وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى ﴾ (الزخرف : ٥١) لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى عليه السلام لم يحتج إلى هذا المجاز. الثاني : أنه موافق لقوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه ا ءَايَةً وَءَاوَيْنَـاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ (المؤمنون : ٥٠) والجواب عنه ما تقدم أن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان من تحت فرعان : الأول : إن حملنا السري على النهر ففيه وجهان : أحدهما : أن جبريل عليه السلام ضرب برجله فظهر ماء عذب. والثاني : أنه كان هناك ماء جار. والأول : أقرب لأن قوله :﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ مشعر بالحدوث في ذلك الوقت ولأن الله تعالى ذكره تعظيماً لشأنها وذلك لا يثبت إلا على الوجه الذي قلناه. الثاني : اختلفوا في أن السري هو النهر مطلقاً وهو قول أبي عبيدة والفراء أو النهر الصغير على ما هو قول الأخفش.


الصفحة التالية
Icon