﴿أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ فهو يدل على أن حاله لم يتغير كما قيل إنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف. الصفة الخامسة : قوله :﴿وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَـانِى﴾ فإن قيل كيف أمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً صغيراً والقلم مرفوع عنه على ما قاله صلى الله عليه وسلّم :"رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ" الحديث وجوابه من وجهين : الأول : أن قوله :﴿وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ﴾ لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فلعل المراد أنه تعالى أوصاه بهما وبأدائهما في الوقت المعين له وهو وقت البلوغ. الثاني : لعل الله تعالى لما انفصل عيسى عن أمه صيره بالغاً عاقلاً تام الأعضاء والخلقة وتحقيقه قوله تعالى :﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ ﴾ (آل عمران : ٥٩) فكما أنه تعالى خلق آدم تاماً كاملاً دفعة فكذا القول في عيسى عليه السلام، وهذا القول الثاني أقرب إلى الظاهر لقوله :﴿مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه في جميع زمان حيائه ولكن لقائل أن يقول لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجباً فكان ينبغي أن لا يعجبوا فلعل الأول أن يقال إنه تعالى جعله مع صغر جثته قوي التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية دالة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل مرة أخرى. الصفة السادسة : قوله تعالى :﴿وَبَرَّا بِوَالِدَتِى﴾ أي جعلني براً بوالدتي وهذا يدل على قولنا : إن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن الآية تدل على أن كونه براً إنما حصل بجعل الله وخلقه وحمله على الألطاف عدول عن الظاهر ثم قوله :﴿وَبَرَّا بِوَالِدَتِى﴾ إشارة إلى تنزيه أمه عن الزنا إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأموراً بتعظيمها. قال صاحب "الكشاف" : جعل ذاته براً لفرط بره ونصبه بفعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفني بها واحد. الصفة السابعة ؛ قوله :﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ وهذا أيضاً يدل على قولنا لأنه لما بين أنه جعله براً وما جعله جباراً فهذا إنما يحسن لو أن الله تعالى جعل غير جباراً وغيره بار بأمه، فإن الله تعالى لو فعل ذلك بكل أحد لم يكن لعيسى عليه السلام مزيد تخصيص بذلك، ومعلوم أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك في معرض التخصيص وقوله :﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا﴾ أي ما جعلني متكبراً بل أنا خاضع لأني متواضع لها ولو كنت جباراً لكنت عاصياً شقياً. وروي أن عيسى عليه السلام قال : قلبي لين وأنا صغير في نفسي وعن بعض العلماء لا تجد العاق إلا جباراً شقياً وتلا :﴿وَبَرَّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ ولا تجد سيىء الملكة إلا مختالاً فخوراً وقرأ :﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا﴾. الصفة / الثامنة : هي قوله :﴿وَالسَّلَـامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٣٧
المسألة الأولى : قال بعضهم : لام التعريف في السلام منصرف إلى ما تقدم في قصتي يحيى عليه السلام من قوله :﴿وَسَلَـامٌ عَلَيْهِ﴾ (مريم : ١٥) أي السلام الموجه إليه في المواطن الثلاثة موجه إلي أيضاً وقال صاحب "الكشاف" : الصحيح أن يكون هذا التعريف تعويضاً باللعن على من اتهم مريم بالزنا وتحقيقه أن اللام للاستغراق فإذا قال :﴿وَالسَّلَـامُ عَلَىَّ﴾ فكأنه قال وكل السلام علي وعلى أتباعي فلم يبق للأعداء إلا اللعن ونظيره قول موسى عليه السلام :﴿وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ (طه : ٤٧) بمعنى أن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام اللجاج والعناد ويليق به مثل هذا التعريض.
المسألة الثانية : روى بعضهم عن عيسى عليه السلام أنه قال ليحيى أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت على نفسي وأجاب الحسن فقال : إن تسليمه على نفسه بتسليم الله عليه.


الصفحة التالية
Icon