﴿شَيْـاًا * يَـا أَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ ومعناه ظاهر وطمع في التمسك به أهل التعليم وأهل التقليد ـ أما أهل التعليم فقالوا : إنه أمره بالإتباع في الدين وما أمره بالتمسك بدليل لا يستفاد إلا من الإتباع، وأما أهل التقليد فقد تمسكوا به أيضاً من هذا الوجه، ومن الناس من طعن أنه أمره بالإتباع لتحصل الهداية، فإذن لا تحصل الهداية إلا باتباعه، ولا تبعية إلا إذا اهتدى لقولنا إنه لا بد من اتباعه فيقع الدور وإنه باطل. "والجواب" عن الأول : أن المراد بالهداية بيان الدليل وشرحه وإيضاحه، فعند هذا عاد السائل فقال : أنا لا أنكر أنه لا بد من الدلالة، ولكني أقول الوقوف على تلك الدلالة لا يستفاد إلا ممن له نفس كاملة بعيدة عن النقص والخطأ، وهي نفس النبي المعصوم أو الإمام المعصوم فإذا سلمت أنه لا بد من النبي في هذا المقصود فقد سلمت حصول الغرض، أجاب المجيب وقال أنا ما سلمت أنه لا بد في الوقوف على الدلائل من هداية النبي، ولكني أقول هذا الطريق أسهل وإن إبراهيم عليه السلام دعاه إلى الأسهل والجواب عن سؤال الدور أن قوله :﴿فَاتَّبِعْنِى ﴾ ليس أمر إيجاب بل أمر إرشاد. والنوع الثالث : قوله :﴿سَوِيًّا * يَـا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَـانَا إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ لِلرَّحْمَـانِ عَصِيًّا﴾ أي لا تطعه لأنه عاص لله فنفره بهذه الصفة عن القبول منه/ لأنه أعظم الخصال المنفرة، واعلم أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص لم يذكر من جنايات الشيطان إلا كونه عاصياً لله ولم يذكر معاداته لآدم عليه السلام كأن النظر في عظم ما ارتكبه من ذلك العصيان غمى فكره وأطبق على ذهنه، وأيضاً فإن معصية الله تعالى لا تصدر إلا عن ضعيف الرأي، ومن كان كذلك كان حقيقاً أن لا يلتفت إلى رأيه ولا يجعل لقوله وزن فإن قيل : إن هذا القول يتوقف على إثبات أمور : أحدها : إثبات الصانع. وثانيها : إثبات الشيطان. وثالثها : إثبات أن الشيطان عاص لله. ورابعها : أنه لما كان عاصياً لم تجز طاعته في شيء من الأشياء. وخامسها : أن الاعتقاد الذي كان عليه ذلك الإنسان كان مستفاداً من طاعة الشيطان، ومن شأن الدلالة التي تورد على الخصم أن تكون مركبة من مقدمات معلومات مسلمة، ولعل أبا إبراهيم كان منازعاً في كل هذه المقدمات، / وكيف والمحكى عنه أنه ما كان يثبت إلهاً سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الإله الرحمن وإذا لم يسلم وجوده، فكيف يمكنه تسليم أن الشيطان كان عاصياً للرحمن، ثم إن على تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرد هذا الكلام أن مذهبه مقتبس من الشيطان، بل لعله يقلب ذلك على خصمه، قلنا : الحجة المعول عليها في إبطال مذهب آزر هو الذي ذكره أولاً من قوله :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٤٥