المسألة الثالثة : ذكروا في سبب نزول الآية وجوهاً : أحدها : قال مقاتل إن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدي والنضر بن الحارث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك فقال عليه السلام :"بل بعثت رحمة للعالمين" قالوا : بل أنت تشقى فأنزل الله تعالى / هذه الآية رداً عليهم وتعريفاً لمحمد صلى الله عليه وسلّم بأن دين الإسلام هو السلام وهذا القرآن هو السلام إلى نيل كل فوز والسبب في إدراك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وثانيها : أنه عليه السلام صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل عليه السلام :"أبق على نفسك فإن لها عليك حقاً" أي ما أنزلناه لتهلك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة، وروى أيضاً أنه عليه السلام :"كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام" وقال بعضهم كان يقوم على رجل واحدة، وقال بعضهم كان يسهر طول الليل فأراد بقوله :﴿لِتَشْقَى ﴾ ذلك، قال القاضي هذا بعيد لأنه عليه السلام إن فعل شيئاً من ذلك فلا بد وأن يكون قد فعله بأمر الله تعالى، وإذا فعله بأمره فهو من باب السعادة فلا يجوز أن يقال له : ما أمرناك بذلك. وثالثها : قال بعضهم يحتمل أن يكون المراد لا تشق على نفسك ولا تعذبها بالأسف على كفر هؤلاء فإنا إنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به، فمن آمن وأصلح فلنفسه ومن كفر فلا يحزنك كفره فما عليك إلا البلاغ وهو كقوله تعالى :﴿لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ (الكهف : ٦) الآية، ﴿وَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾ (يونس) ٦٥). ورابعها : أنك لا تلام على كفر قومك كقوله تعالى :﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم﴾ (الغاشية : ٢٢)، ﴿حَفِيظًا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ (الأنعام : ١٠٧) أي ليس عليك كفرهم إذا بلغت ولا تؤاخذ بذنبهم. وخامسها : أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة وفي ذلك الوقت كان عليه السلام مقهوراً تحت ذل أعدائه فكأنه سبحانه قال له لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة أبداً بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك مثل هذا القرآن لتبقى شقياً فيما بينهم بل تصير معظماً مكرماً. وأما قوله تعالى :﴿إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في كلمة إلا ههنا قولان، أحدهما : أنه استثناء منقطع بمعنى لكن. والثاني : التقدير ما أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة كما يقال ما شافهناك بهذا الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٥
المسألة الثانية : إنما خص من يخشى بالتذكرة لأنهم المنتفعون بها وإن كان ذلك عاماً في الجميع وهو كقوله :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة : ٢) وقال سبحانه وتعالى :﴿تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِه لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان : ١) وقال :﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـافِلُونَ﴾ (يس : ٦) وقال :﴿وَتُنذِرَ بِه قَوْمًا لُّدًّا﴾ (مريم : ٩٧) وقال :﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
المسألة الثالثة : وجه كون القرآن تذكرة أنه عليه السلام كان يعظمهم به وببيانه فيدخل تحت قوله لمن يخشى الرسول صلى الله عليه وسلّم لأنه في الخشية والتذكرة بالقرآن كان فوق الكل. وأما قوله تعالى :﴿تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الارْضَ وَالسَّمَـاوَاتِ الْعُلَى﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في نصب تنزيلا وجوهاً. أحدها : تقديره نزل تنزيلاً ممن خلق الأرض فنصب تنزيلاً بمضمر. وثانيها : أن ينصب بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه / تذكرة. وثالثها : أن ينصب على المدح والاختصاص. ورابعها : أن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله الله تعالى :﴿تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴾ تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين وقرىء تنزيل بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
المسألة الثانية : فائدة الانتقال من لفظ التكلم إلى لفظ الغيبة أمور، أحدها : أن هذه الصفات لا يمكن ذكرها إلا مع الغيبة. وثانيها : أنه قال أولا أنزلنا ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فتضاعفت الفخامة من طريقين. وثالثها : يجوز أن يكون أنزلنا حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه.
المسألة الثالثة : أنه تعالى عظم حال القرآن بأن نسبه إلى أنه تنزيل ممن خلق الأرض وخلق السموات على علوها وإنما قال ذلك لأن تعظيم الله تعالى يظهر بتعظيم خلقه ونعمه وإنما عظم القرآن ترغيباً في تدبره والتأمل في معانيه وحقائقه وذلك معتاد في الشاهد فإنه تعظم الرسالة بتعظيم حال المرسل ليكون المرسل إليه أقرب إلى الامتثال.
المسألة الرابعة : يقال سماء عليا وسموات علا وفائدة وصف السموات بالعلا الدلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها أما قوله تعالى :﴿الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ ففيه مسائل :