فإن قيل هذا التأويل غير جائز لوجوه. أحدها : أن الإستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وذلك في حق الله تعالى محال. وثانيها : أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان له منازع ينازعه، وكان المستولى عليه موجوداً قبل ذلك، وهذا في حق الله تعالى محال، لأن العرش إنما حدث بتخليقه وتكوينه. وثالثها : الاستيلاء حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة. والجواب : أنا إذا فسرنا الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، قال صاحب الكشاف لما كان الاستواء على العرش، وهو سرير الملك لا يحصل إلامع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على البلد يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك ونحوه قولك : يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد وبخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأساً قيل فيه يده مبسوطة لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قوله جواد، ومنه قوله تعالى :﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌا غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ (المائدة : ٦٤) أي هو بخيل ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ (المائدة : ٦٤) أي هو جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط، والتفسير بالنعمة والتمحل بالتسمية من ضيق العطن. وأقول : إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم أيضاً يقولون المراد من قوله :﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ﴾ (طه : ١٢) الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور فعل، وقوله :﴿قُلْنَا يَـانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى ا إِبْرَاهِيمَ﴾ (ابراهيم : ٦٩) المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام من يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة، وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى، بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليت من لم يعرف شيئاً لم يخض فيه، فهذا تمام الكلام في هذه الآية، ومن أراد الاستقصاء في الآيات والأخبار المتشابهات فعليه بكتاب تأسيس التقديس وبالله التوفيق. أما قوله تعالى :﴿لَه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٥
فاعلم أنه سبحانه لم شرح ملكه بقوله :﴿الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ والملك لا ينتظم إلا بالقدرة والعلم، لا جرم عقبه بالقدرة ثم بالعلم. أما القدرة فهي هذه الآية والمراد أنه سبحانه مالك لهذه الأقسام الأربعة فهو مالك لما في السموات من ملك ونجم وغيرهما، ومالك لما في الارض من المعادن والفلزات ومالك لما بينهما من الهواء. ومالك لما تحت الثرى، فإن قيل الثرى هو السطح الأخير من العالم فلا يكون تحته شيء فكيف يكون الله مالكاً له قلنا : الثرى في اللغة التراب الندي فيحتمل أن يكون تحته شيء وهو إما الثور أو الحوت أو الصخرة أو البحر أو الهواء على اختلاف الروايات، أما العلم فقوله تعالى :﴿وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّه يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ وفيه قولان، أحدهما : أن قوله :﴿وَأَخْفَى﴾ بناء المبالغة، وعلى هذا القول نقول إنه تعالى قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام : الجهر، والسر. والأخفى. فيحتمل أن يكون المراد من الجهر القول الذي يجهر به، وقد يسر في النفس وإن ظهر البعض، وقد يسر ولا يظهر على ما قال بعضهم. ويحتمل أن يكون المراد بالسر وبالأخفى ما ليس بقول وهذا أظهر فكأنه تعالى بين أنه يعلم السر الذي لا يسمع وما هو أخفى منه فكيف لا يعلم الجهر، والمقصود منه زجر المكلف عن القبائح ظاهرة كانت أو باطنة، والترغيب في الطاعات ظاهرة كانت أو باطنة/ فعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل السر والأخفى على ما فيه ثواب أو عقاب، والسر هو الذي يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها، والأخفى هو الذي لم يبلغ حد العزيمة، ويحتمل أن يفسر الأخفى بما عزم عليه وما وقع في وهمه الذي لم يعزم عليه، ويتحمل ما لم يقع في سره بعد فيكون أخفى من السر، ويحتمل أيضاً ما سيكون من قبل الله تعالى من الأمور التي لم تظهر، وإن كان الأقرب ما قدمناه مما يدخل تحت الزجر والترغيب. القول الثاني : أن أخفى فعل يعني أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه وهو كقوله :﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه ﴾ (البقرة : ٢٥٥) فإن قيل كيف يطابق الجزاء الشرط ؟
قلنا معناه إن تجهر بذكر الله تعالى من دعاء أو غيره، فاعلم أنه غني عن جهرك، وإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله :﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ (
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٥


الصفحة التالية
Icon