﴿أَلْقِهَا يَـامُوسَى ﴾ وفيه نكت، إحداها : أنه عليه السلام لما قال :﴿وَلِىَ فِيهَا مَـاَارِبُ أُخْرَى ﴾ أراد الله أن يعرفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائر مآربه فقال :﴿قَالَ أَلْقِهَا يَـامُوسَى * فَأَلْقَـاـاهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴾. وثانيتها : كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فقال أولاً :﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ﴾ (طه : ١٢) إشارة إلى ترك الهرب، ثم قال ألقها يا موسى وهو إشارة إلى ترك الطلب. كأنه سبحانه قال : إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلاً بنفسك / وطالباً لحظك فلا تكون خالصاً لمعرفتي فكن تاركاً للهرب والطلب لتكون خالصاً لي. وثالثتها : أن موسى عليه السلام مع علو درجته/ وكمال منقبته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بالقائهما حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابة. ورابعتها : أن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان مجرداً عن الكل ما زاغ البصر فلا جرم وجد الكل، لعمرك أما موسى لما بقي معه تلك العصا لا جرم أمره بإلقاء العصا، واعلم أن الكعبي تمسك به في أن الاستطاعة قبل الفعل فقال : القدرة على إلقاء العصا، إما أن توجد والعصا في يده أو خارجة من يده فإن أتته القدرة وهي في يده فذاك قولنا :﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ (آل عمران : ١٨٢) وإذا أتته وليست في يده وإنما استطاع أن يلقي من يده ما ليس في يده فذلك محال، أما قوله :﴿فَأَلْقَـاـاهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴾ ففيه أسئلة : السؤال الأول : ما الحكمة في قلب العصا حية في ذلك الوقت ؟
الجواب فيه وجوه : أحدها : أنه تعالى قلبها حية لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه وذلك لأنه عليه السلام إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء، والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا أنه لم يكن معجزاً لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن فلا جرم قلب الله العصا حية ليصير ذلك دليلاً قاهراً والعجب أن موسى عليه السلام قال : أتوكأ عليها فصدقه الله تعالى فيه وجعلها متكأ له بأن جعلها معجزة له. وثانيها : أن النداء كان إكراماً له فقلب العصا حية مزيداً في الكرامة ليكون توالي الخلع والكرامات سبباً لزوال الوحشة عن قلبه. وثالثها : أنه عرض عليه ليشاهده أولاً فإذا شاهده عند فرعون لا يخافه. ورابعها : أنه كان راعياً فقيراً ثم إنه نصب للمنصب العظيم فلعله بقي في قلبه تعجب من ذلك فقلب العصا حية تنبيهاً على أني لما قدرت على ذلك فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين. وخامسها : أنه لما قال :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٢٨
﴿قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا ﴾ إلى قوله :﴿وَلِىَ فِيهَا مَـاَارِبُ أُخْرَى ﴾ فقيل له :﴿أَلْقِهَا﴾ فلما ألقاها وصارت حية فر موسى عليه السلام منها فكأنه قيل له : ادعيت أنها عصاك وأن لك فيها مآرب أخرى فلم تفر منها، تنبيهاً على سر قوله :﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّه ﴾ (الذاريات : ٥٠) وقوله ؛ ﴿قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ (الأنعام : ٩١). السؤال الثاني : قال ههنا حية وفي موضع آخر ثعبان وجان، أما الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير، وأما الثعبان والجان فبينهما تناف لأن الثعبان العظيم من الحيات والجان الدقيق وفيه وجهان : أحدهما : أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جرمها حتى صارت ثعباناً فأريد بالجان أول حالها وبالثعبان مآلها. والثاني : أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان، والدليل عليه قوله تعالى :﴿فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾. السؤال الثالث : كيف كانت صفة الحية. الجواب كان لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعاً، وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها وجوفها، أما قوله تعالى :﴿قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْا سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولَى ﴾ ففيه سؤالات : السؤال الأول : لما نودي موسى / وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه معبوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلم خاف. والجواب من وجوه : أحدها : أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط. وأيضاً فهذه الأشياء معلومة بدلائل العقول. وعند الفزع الشديد قد يذهل الإنسان عنه. قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه ألبتة. وثانيها : قال بعضهم : خافها لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها. وثالثها : أن مجرد قوله :﴿لا تَخَفْ﴾ لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى :﴿وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ﴾ (الأحزاب : ١) لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله :﴿فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا﴾ (


الصفحة التالية
Icon