المسألة الخامسة : أنه سبحانه وتعالى لما أظهر له هذه الآية عقبها بأن أمره بالذهاب إلى فرعون وبين العلة في ذلك وهي أنه طغى، وإنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبر وكان متبوعاً فكان ذكره أولى. قال وهب : قال الله تعالى لموسى عليه السلام :"اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان علي وسقط / من عيني فبلغه عني رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي : وقل له قولاً ليناً لا يغترن بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي، لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي، في كلام طويل، قال فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك بعبده".
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٢٩
٤٦
اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون وكان ذلك تكليفاً شاقاً فلا جرم سأل ربه أموراً ثمانية، ثم ختمها بما يجري مجرى العلة لسؤال تلك الأشياء.
المطلوب الأول : قوله :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ واعلم أنه يقال شرحت الكلام أي بينته وشرحت صدره أي وسعته والأول يقرب منه لأن شرح الكلام لا يحصل إلا ببسطة. والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر وهو قوله :﴿وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِى﴾ (الشعراء : ١٣) فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة، وقال :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ فأفهم عنك ما أنزلت علي من الوحي، وقيل : شجعني لأجترىء به على مخاطبة فرعون ثم الكلام فيه يتعلق بأمور. أحدها : فائدة الدعاء وشرائطه. وثانيها : ما السبب في أن الإنسان لا يذكر وقت الدعاء من أسماء الله تعالى إلا الرب. وثالثها : ما معنى شرح الصدر. ورابعها : بماذا يكون شرح الصدر. وخامسها : كيف كان شرح الصدر في حق موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلّم. وسادسها : صفة صدر موسى عليه السلام هل كان منشرحاً أو لم يكن منشرحاً، فإن كان منشرحاً كان طلب شرح الصدر تحصيلاً للحاصل وهو محال، وإن لم يكن منشرحاً فهو باطل من وجهين. الأول : أنه سبحانه بين له فيما تقدم كل ما يتعلق بالأديان من معرفة الربوبية والعبودية وأحوال المعاد وكل ما يتعلق بشرح الصدر في باب الدين فقد حصل، ثم إنه سبحانه تلطف له بقوله :﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ (طه : ١٣) ثم كلمه على سبيل الملاطفة بقوله :﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى ﴾ (طه : ١٧) ثم أظهر له المعجزات / العظيمة والكرامات الجسيمة، ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيراً وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل، ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر. والثاني : أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال عليه السلام :"لا يقضي القاضي وهو غضبان" فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء ؟
فهذا مجموع الأمور التي لا بد من البحث عنها في هذه الآية.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٤٦


الصفحة التالية
Icon