﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَـالَةِ ﴾ (النساء : ١٧٦). والحادية عشر :﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ (البقرة : ١٨٦) إذا عرفت هذا فنقول جاءت هذه الأسئلة والأجوبة على صور مختلفة، فالأغلب فيها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر السؤال قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم قل وفي صورة أخرى جاء الجواب بصيغة فقل مع فاء التعقيب وفي صورة ثالثة ذكر السؤال ولم يذكر الجواب، وهو قوله تعالى :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا ﴾ (الأعراف : ١٨٧) وفي صورة رابعة ذكر الجواب ولم يذكر فيه لفظ قل ولا لفظ فقل وهو قوله تعالى :﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ ولا بد لهذه الأشياء من الفائدة فنقول : أما الأجوبة الواردة بلفظ قل فلا إشكال فيها لأن قوله تعالى قل كالتوقيع المحدد في ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وكالتشريف المحدد في كونه مخاطباً من الله تعالى بأداء الوحي والتبليغ. وأما الصورة الثانية وهي قوله :﴿فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا﴾ (طه : ١٠٥) فالسبب أن قولهم :﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ﴾ (طه : ١٠٥) سؤال إما عن قدمها أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يجيب بلفظ / الفاء المفيد للتعقيب كأنه سبحانه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تقتصر فإن الشك فيه كفر ولا تمهل هذا الأمر لئلا يقعوا في الشك والشبهة، ثم كيفية الجواب أنه قال :﴿فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا﴾ ولا شك أن النسف ممكن لأنه ممكن في حق كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكناً في حق كل الجبل وذلك يدل على أنه ليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف، فإن قيل : إنهم قالوا : أخبرنا عن إلهك أهو ذهب أو فضة أو حديد فقال :﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ (الإخلاص : ١) ولم يقل فقل هو الله أحد مع أن هذه المسألة من المهمات قلنا إنه تعالى لم يحك في هذا الموضع سؤالهم وحرف الفاء من الحروف العاطفة فيستدعي سبق كلام فلما لم يوجد ترك الفاء بخلاف ههنا فإنه تعالى حكى سؤالهم فحسن عطف الجواب عليه بحرف الفاء. وأما الصورة الثالثة : فإنه تعالى لم يذكر الجواب في قوله :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٤٦
﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا ﴾ فالحكمة فيه أن معرفة وقت الساعة على التعيين مشتملة على المفاسد التي شرحناها فيما سبق فلهذا لم يذكر الله تعالى ذلك الجواب وذلك يدل على أن من الأسئلة ما لا يجاب عنها. وأما الصورة الرابعة : وهي قوله :﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ ولم يذكر في جوابه قل ففيه وجوه. أحدها : أن ذلك يدل على تعظيم حال الدعاء وأنه من أعظم العبادات فكأنه سبحانه قال : يا عبادي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك يدل عليه أن كل قصة وقعت لم تكن معرفتها من المهمات. قال لرسوله صلى الله عليه وسلّم : اذكر لهم تلك القصة كقوله تعالى :﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ﴾ (المائدة : ٢٧). ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَـاهُ ءَايَـاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ (الأعراف : ١٧٥). ﴿وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ مُوسَى ا ﴾ (مريم : ٥١)، ﴿وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ إِسْمَـاعِيلَ ﴾ (مريم : ٥٤). ﴿وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ إِدْرِيسَ ﴾ (مريم : ٥٦). ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ (الحجر : ٥١)، ثم قال في قصة يوسف :﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ (يوسف : ٣) وفي أصحاب الكهف :﴿نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ﴾ (الكهف : ١٣). وما ذاك إلالما في هاتين القصتين من العجائب والغرائب، والحاصل كأنه سبحانه وتعالى قال : يا محمد إذا سئلت عن غيري فكن أنت المجيب، وإذا سئلت عني فاسكت أنت حتى أكون أنا القائل. وثانيها : أن قوله :﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ يدل على أن العبد له (أن يسأل) وقوله :﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ يدل على أن الرب قريب من العبد. وثالثها : لم يقل فالعبد مني قريب، بل قال أنا منه قريب، وهذا فيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو، هو في مركز العدم وحضيض الفناء، فكيف يكون قريباً، بل القريب هو الحق سبحانه وتعالى فإنه بفضله وإحسانه جعله موجوداً وقربه من نفسه فالقرب منه لا من العبد فلهذا قال :﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٤٦


الصفحة التالية
Icon