البحث الرابع : قوله :﴿قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ ﴾ فما الفائدة في التليين أولاً والتغليظ ثانياً ؟
قلنا : لأن الإنسان إذا ظهر لجاجه فلا بد له من التغليظ فإن قيل : أليس كان من الواجب أن يقولا إنا رسولا ربك قد جئناك بآية فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم، لأن ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة أولى من تأخيره عنه ؟
قلنا : بل هذا أولى من تأخيره عنه لأنهم ذكروا مجموع الدعاوى ثم استدلوا على ذلك المجموع بالمعجزة، أما قوله :﴿قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ ﴾ ففيه سؤال وهو أنه تعالى أعطاه آيتين وهما العصا واليد ثم قال :﴿اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـاَايَـاتِى﴾ (طه : ٤٢) وذلك يدل على ثلاث آيات وقال ههنا :﴿جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ﴾ وهذا يدل على أنها كانت واحدة فكيف الجمع ؟
أجاب القفال بأن معنى الآية الإشارة إلى جنس الآيات كأنه قال : قد جئناك ببيان من عند الله ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة، وأما قوله :﴿وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ فقال بعضهم هو من قول الله تعالى لهما كأنه قال : فقولا إنا رسولا ربك، وقولا له : والسلام على من اتبع الهدى، وقال آخرون بل كلام الله تعالى قد تم عند قوله :﴿قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ ﴾ فقوله بعد ذلك :﴿وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ وعد من قبلهما لمن آمن وصدق بالسلامة له من عقوبات الدنيا والآخرة، والسلام بمعنى السلامة كما يقال رضاع ورضاعة واللام وعلى ههنا بمعنى واحد كما قال / ﴿لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ﴾ (الرعد : ٢٥) على معنى عليهم وقال تعالى :﴿مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه ا وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ﴾ (فصلت : ٤٦) وفي موضع آخر :﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ (الإسراء : ٧)، أما قوله :﴿إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ (طه : ٤٨) فاعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن عقاب المؤمن لا يدوم وذلك لأن الألف واللام في قوله :﴿الْعَذَابَ﴾ تفيد الاستغراق أو تفيد الماهية وعلى التقديرين يقتضي انحصار هذا الجنس فيمن كذب وتولى فوجب في غير المكذب المتولي أن لا يحصل هذا الجنس أصلاً، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين بترك العمل به في بعض الأوقات فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام لأن العقاب المتناهي إذا حصل بعده السلامة مدة غير متناهية صار ذلك العقاب كأنه لا عقاب فلذلك يحسن مع حصول ذلك القدر أن يقال : إنه لا عقاب، وأيضاً فقوله :﴿وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾، وقد فسرنا السلام بالسلامة فظاهره يقتضي حصول السلامة لكل من اتبع الهدى، والعارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون صاحب السلامة.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٥٦


الصفحة التالية
Icon